كلمة السيد عبد الملك بدرالدين الحوثي بالذكرى السنوية للشهيد 1444 – 2022
حيَّاكُمُ اللَّه جميعاً، أهلاً وسهلاً ومرحباً…
نُرَحِّب بِكُلِّ الإِخْوَةِ الحَاضِرِين، وَبِالآبَاءِ العُلَمَاءِ الأَجِلَّاء، وَالإِخْوَةِ المَسْؤولِين، وَبِكَافةِ الحَاضِرِينَ أَجْمَعِين…
أَعُـوْذُ بِاللَّهِ مِنْ الشَّيْطَان الرَّجِيْمِ
بِـسْـــمِ اللَّهِ الرَّحْـمَـنِ الرَّحِـيْـمِ
الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ، وَأَشهَدُ أَن لا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ الْمَلِكُ الْحَقُّ المُبين، وَأشهَدُ أنَّ سَيِّدَنا مُحَمَّداً عَبدُهُ ورَسُوْلُهُ خَاتَمُ النَّبِيِّين.
اللَّهُمَّ صَلِّ عَلى مُحَمَّدٍ وَعَلى آلِ مُحَمَّد، وَبارِكْ عَلى مُحَمَّدٍ وَعَلى آلِ مُحَمَّد، كَمَا صَلَّيْتَ وَبَارَكْتَ عَلى إِبْرَاهِيمَ وَعَلى آلِ إِبْرَاهِيمَ إِنَّكَ حَمِيدٌ مَجِيدٌ، وارضَ اللَّهُمَّ بِرِضَاكَ عَنْ أَصْحَابِهِ الْأَخْيَارِ المُنتَجَبين، وَعَنْ سَائِرِ عِبَادِكَ الصَّالِحِينَ، وَالشُهَدَاءِ وَالمُجَاهِدِين.
أَيُّهَــــــا الإِخْــــــوَةُ الأَعِــــــزَاءُ: السَّـــلَامُ عَلَيْـكُـمْ وَرَحْمَــةُ اللَّهِ وَبَـرَكَـاتُـــهُ؛؛؛
فِي هَذَا المَقَام- فِي الذِّكْرَى السَنَويِّةِ لِلشَهِيد- نَتَوَجَّهُ إِلى اللَّه “سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى” أَنْ يَرْحَمَ شُهَدَاءَنَا الأَبْرَار، وَنَسْأَلُهُ أَنْ يَرْفَعَ دَرَجَاتِهِم، وَأَنْ يَجْعَلَهُم فِي رِفَاقِ أَنْبِيَائِهِ وَالصَّالِحِينَ مِنْ عِبَادِه، كَمَا نَتَوَجَّهُ بِالتَحِيَّةِ وَالإِعزَازِ وَالتَقْدِير لِكُلِ أَقَارِبِ الشُهَدَاء.
الذكرى السنوية للشهيد هي محطةٌ مهمةٌ نتزود منها العزم، والبصيرة، والوعي، ونستفيد منها الكثير من الدروس، وقد جرت عادة المجتمع البشري بشكلٍ عام- في مختلف أمم الأرض- أن يحتفوا وأن يمجِّدوا تضحيات من أسهموا في قضاياهم الكبرى، من ضحوا من أجل مبادئهم المهمة، أو قضاياهم المصيرية، أو من أجل حريتهم، أو استقلالهم، أو عزتهم، أو كرامتهم… أو أي أمرٍ مهمٍ من أمورهم، هذا شيءٌ فطريٌ في واقع بني البشر بشكلٍ عام.
أمَّا الإسلام فقد أعطى منزلةً عاليةً للشهداء، والله “سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى”- وهو العظيم الرحيم الكريم- قد جعل لهم من المنزلة، ورفيع الدرجة، والمقام، والجزاء العظيم، ما أعلى من منزلة الشهادة ومرتبة الشهادة فوق كل تقديرات البشر، وفوق كل نظرتهم، وفوق كل ما يمكن أن يقدِّموه في سبيل تخليد ذكرى من يضحون ويقدِّرون تضحياتهم لتلك الاعتبارات التي سلفت.
في شعبنا العزيز (يمن الإيمان والحكمة)، من تجليات ومصاديق هذا العنوان العظيم: (يمن الإيمان، والإيمان يمان)، هو ما قدَّمه هذا الشعب من تضحياتٍ كبيرة، ورصيده العظيم من الشهداء في سبيل الله “سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى” في إطار الموقف الحق، والقضايا العادلة، هو فعلاً مصداقٌ عظيم، ويكون من خلاله في الصدارة بين شعوب هذه الأمة، في مستوى ثباته، وصموده، وتضحياته، وعطائه، وفي مستوى ثباته الذي لا يعتريه وهن، ولا ضعف، ولا استكانة.
في هذه المحطة المهمة هناك عددٌ من العناوين التي نتحدث على ضوئها:
- من هذه العناوين: أهمية هذه المناسبة في ترسيخ المفهوم الصحيح للشهادة، ودورها في إحياء الأمة؛ لأن البعض من المثبِّطين، والمتخاذلين، واليائسين، والمنهزمين، ومن الأعداء أيضاً، يحاولون أن يقدِّموا صورةً مغلوطة عن الشهادة، ومفهوم الشهادة، وأن يصوِّروها وكأنها خسارة، وأن يحاولوا أن يفتُّوا من عضد الأمة، وأن يوهنوا من عزمها، وأن يضعفوا من قوة موقفها، وقوة إرادتها، من خلال ما قد يتحدثون به عن موضوع الشهداء والشهادة في سبيل الله “سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى”، هذا العنوان سنتحدث عنه ونعطيه مساحة أكبر من غيره من العناوين في إطار الكلمة إن شاء الله.
- من العناوين المهمة في أهمية هذه المناسبة، هو: الاستذكار للشهداء على نحوٍ عام، وتمجيد عطائهم، وتقدير تضحياتهم وجهودهم، عطاء الشهداء، وجهود الشهداء، وأثر تضحياتهم فيما أسهموا به لصالح الأمة، ولصالح شعبنا العزيز، من حريةٍ، وكرامةٍ، وعزةٍ، وانتصارات، وفيما دفع الله به من خلال تضحياتهم وجهودهم عن الأمة، عن الشعب، من ذلٍ، وهوانٍ، واستعبادٍ، وقهرٍ، وما كان سيترتب على سيطرة الأعداء وتغلب الأعداء من مظالم رهيبة وقهر، لا يمكن التنكر لتلك الجهود، ولتلك التضحيات، فطرة الإنسان السليمة تجعله يُكْبِر هذه الجهود، ويعظِّم هذه التضحيات ويمجِّدها، وأيضاً يشيد بها، يشكرها، يقدِّرها، يتحدث عنها بإيجابيةٍ وإنصاف، فهي جهود لها أثرها العظيم في الواقع، وأثرها يتعاظم يوماً بعد يوم، يكبر، ثمارها كذلك مستمرة، متجددة، نتائجها أيضاً نتائج عظيمة، وممتدة، ومتجددة، فالاستذكار للشهداء على سبيل الإجمال، ثم على سبيل التفصيل، وهناك جهودٌ مشكورة، نأمل المزيد والمزيد منها في إنتاج الكثير من البرامج والسِّير للشهداء، والحديث عن الشهداء؛ لأن الشهداء هم مدرسةٌ عظيمة، مدرسة تجسدت فيها القيم والأخلاق والمبادئ على أرقى مستوى، من خلال استذكار سيرهم، والحديث عنهم، الحديث عن كيف كانوا، كيف كان عطاؤهم، كيف كانت روحيتهم، كيف كانت أخلاقهم، ما بذلوه من جهود، يترك أثره الكبير جداً، ويبعث روحيةً عظيمةً في شباب الأمة، وفي المجتمع بشكلٍ عام، في الانشداد نحو التضحية والعطاء، ونحو تلك القيم العظيمة، التي جسَّدوها فبرز جمالها وجلالها، فهذا جانبٌ مهمٌ جداً، في هذه الأيام ومع الذكرى هناك عرض في القنوات الوطنية لكثير مما قد أنتج عن الشهداء، وهو مفيد، ومؤثر، وأثره الإيجابي عظيمٌ جداً، أبلغ من أي محاضرة، أو حديث.
- من أهم العناوين التي تؤخذ بعين الاعتبار في هذه المناسبة، هو: التذكير بقدسية الموقف، وحجم المسؤولية في الوفاء لتضحيات الشهداء، ولأهداف الشهداء، والثبات على الموقف الحق، ومواصلة السير في الدرب، وهذا أيضاً من العناوين التي سيأتي الحديث عنه بشكلٍ تفصيليٍ أكثر في إطار الحديث إن شاء الله.
- ومن المهم أيضاً في مناسبة الذكرى السنوية للشهيد: التذكير بالمسؤولية تجاه أسر الشهداء، والإشادة أيضاً بهم، وبعطائهم، واحتسابهم، وصبرهم، وثباتهم، ومواقفهم المشرِّفة.
نبدأ من العنوان المهم، وهو: المفهوم الصحيح للشهادة، ولدورها الكبير في إحياء الأمة، ونهضة الأمة، وعزة الأمة، وكرامة الأمة… وغير ذلك من النتائج المهمة للشهادة ولمفهومها العظيم.
يحاول الكثير من الأعداء، ومن المثبِّطين، واليائسين، والمنحرفين عن منهج الله الحق، وعن المبادئ المهمة، ممن لهم توجهات مختلفة، بعيدة عن القيم، والأخلاق، والمبادئ الإلهية، يحاولون أن يقدِّموا صورةً مشوهة عن الشهادة، وكأنها خسارة، وكأنها تضحية عبثية، ويصوِّرون نتائجها بشكلٍ مأساويٍ يبعث في نفوس الناس حالة اليأس والتحطم، ولكنهم فاشلون، فاشلون في ذلك؛ لأن هذا المفهوم في قدسيته وعظمته محميٌ بما قدَّمه الله في القرآن الكريم، وأيضاً بما هو ثابت في وجدان الأمة، وتراث الأمة، وشيءٌ فطريٌ في واقع الناس، ولكن التذكير مهمٌ جداً.
من أول ما نلحظه ونعرفه ونتحدث به عن الشهادة، من خلال القرآن الكريم، وما قدَّمه رسول الله “صَلَوَاتُ اللَّهِ عَلَـيْهِ وَعَلَى آلِه”، وما هو معروفٌ في ثقافتنا القرآنية والإسلامية كمسلمين، هو: أنَّ الشهادة في سبيل الله تعالى منزلةٌ رفيعة، واختيارٌ إلهي، الشهادة ليست مسألةً عادية، وليست مسألة بسيطة، هي شيءٌ عظيم، شأنها كبير، هي في مقدِّمة كل شيء: منزلة رفيعة عند الله “سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى”، من يحظى بها من الناس، من المسلمين، من المؤمنين؛ فقد حظي بشرفٍ كبير، منزلته عند الله تعالى- عند الله وهذا أعظم من كل شيء- منزلة رفيعة، في القرب من الله “سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى”، فيما يحظى به من رضوان الله “سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى”، من التكريم الإلهي؛ ولذلك ليست مسألة الشهادة مسألة عادية، ويمكن أن ينالها كل إنسان، هي اختيارٌ إلهي، الله يقول في القرآن الكريم: {وَيَتَّخِذَ مِنْكُمْ شُهَدَاءَ}[آل عمران: من الآية140]، فالله “سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى” يختار ويجتبي ويتخذ من يمنحه هذا الفضل، هذه المنزلة الرفيعة العالية، هذه المرتبة العالية في درجات الفضل عند الله “سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى”، {وَيَتَّخِذَ مِنْكُمْ شُهَدَاءَ}، فهي ذات مرتبة كبيرة في درجات القرب والفوز والتكريم الإلهي.
ويأتي الحديث في القرآن الكريم عن الشهداء كحديثٍ مميز، حتى في مقامهم، وفي عنوانهم واسمهم، يقول الله “سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى”: {وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَأُولَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ}[النساء: من الآية69]، فيأتي بهم في هذا الموقع المتميز بعنوانهم واسمهم المعروف: {وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُولَئِكَ رَفِيقًا}[النساء: من الآية69].
في الروايات عن رسول الله “صَلَوَاتُ اللَّهِ عَلَـيْهِ وَعَلَى آلِه” أن للشهداء ميزتهم حتى في الجنة، في عالم الجنة، في بعض الروايات أنهم (عُرفاء أهل الجنة)، لهم مقام خاص، ومنزلة خاصة، وتكريم خاص حتى في داخل الجنة، هذه منزلة عظيمة جداً، من يفوز بها فالله منحه فوزاً عظيماً، وهي ترفع درجة الإنسان، يعني: قد يكون له مستوى معين من الأعمال، والعمل الصالح، والجهد في سبيل الله، وما شابه، لكن بالشهادة يحقق قفزةً هائلة، ويرتقي إلى مرتبة عالية، ودرجة عالية جداً، في القرب من الله “سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى”، في الحظوة عند الله، في التكريم الإلهي.
ولذلك كانت الشهادة أُمْنِيَّة لأولياء الله، مهما بلغوا فيما قدموا من صالح الأعمال، من الأعمال المرضية، لكنهم يعتبرون الشهادة شيئاً عظيماً يتوقون إليه، يسألون الله أن يختم لهم به.
أمير المؤمنين عليٌّ “عَلَيْهِ السَّلَامُ“ عندما فاز بالشهادة، عندما ضُرب بالسيف، كان تعبيره يدل على مدى إعظامه للشهادة ونظرته إليها، بالرغم مما قد عمله من منزلته العظيمة عند الله “سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى”، لكنه هتف قائلاً: ((فُزتُ وَرَبِّ الكَعْبَة)).
هي أيضاً فوزٌ عظيم، وسعادةٌ وتكريمٌ إلهيٌّ كبير، وفيها تشجيعٌ وتحفيزٌ على الاستجابة لله تعالى، والتحرك في سبيله، وتبني المواقف الصحيحة والمطلوبة، والاستعداد للتضحية، ومعالجةٌ للعائق الكبير تجاه ذلك وهو الخوف من الموت.
الإنسان قد يتشبث بهذه الحياة، مع أن الأغلب يعيشون ظروفاً صعبة في هذه الحياة، ليس لأنهم في نعيم في هذه الحياة، ولكن هذه حالة لدى الإنسان، يتشبث بالحياة، وبالاستمرارية في الوجود في هذه الحياة، ويقلق من أي شيء قد يشكِّل تهديداً على حياته، أو على استمرارية حياته، هذا يؤثر على الكثير من الناس حتى تجاه المسؤوليات العظيمة، المواقف العظيمة والمهمة، مهما كانت أهميتها:
- أهميتها لهم في هذه الدنيا: في أن يكونوا أحراراً، أعزاء، كرماء، في أن يدفعوا عن أنفسهم الظلم، والضيم، والقهر، والذلة، والهوان، والاستعباد.
- وأيضاً أهميتها لهم عند الله “سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى” في الآخرة: في أن يفوزوا برضوانه وجنته، والنجاة من عذابه.
مع كل هذه الأهمية الكثير من الناس- لضعف الإيمان، ومستوى الانشداد لهذه الحياة- يتهربون من الأعمال التي يتوقعون فيها أن تشكِّل خطورةً على حياتهم، على استمرار وجودهم، فيمثل الخوف من الموت أكبر عائقٍ لهم عن الاستجابة لله “سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى” في أداء مسؤولياتهم تلك، التي هي مسؤوليات مهمةٌ لهم هم؛ لأن الله غنيٌ عنا، وعن أعمالنا؛ إنما هي مهمةٌ لنا، مفيدةٌ لنا، عائدها لنا في الدنيا والآخرة.
فَقَدَّم الله “سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى” ما يعالج هذه الإشكالية لدى الإنسان، ضمن تدبيره “سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى” برحمته وبحكمته، فجعل للشهداء، لمن يضحون بحياتهم، وينالون هذا الشرف الكبير في سبيل الله “سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى”، جعل لهم استثناءً تجاه مسألة الموت، ألَّا يكون مصيرهم هو الموت والفناء إلى يوم القيامة، أن يكون الموت بالنسبة لهم حالةً عابرةً محدودةً جداً، ينتقلون من خلالها إلى حياةٍ حقيقيةٍ فيها السعادة والتكريم الإلهي العظيم، فيها الفرح الدائم، والاستبشار الأبدي، فيها الراحة والسعادة والكرامة، وهذا ما أكد عليه في القرآن الكريم، في قوله “سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى”: {وَلَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتًا بَلْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ (169) فَرِحِينَ بِمَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَيَسْتَبْشِرُونَ بِالَّذِينَ لَمْ يَلْحَقُوا بِهِمْ مِنْ خَلْفِهِمْ أَلَّا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ(170) يَسْتَبْشِرُونَ بِنِعْمَةٍ مِنَ اللَّهِ وَفَضْلٍ وَأَنَّ اللَّهَ لَا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُؤْمِنِينَ}[آل عمران: 169-171].
لا يمكن أن يكون الإنسان خاسراً أبداً في سبيل الله، لا يمكن للإنسان أن يخسر أبداً عندما يستجيب لله، عندما يؤدي مسؤولياته التي أمره الله بها، لا خسارة مع الله مطلقاً، إن تنفق من مالك، فالله “سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى” يخلف عليك في الدنيا والآخرة، ويضاعف لك الأجر أضعافاً كثيرة، الإنفاق في سبيل الله في حده الأدنى يضاعف إلى سبعمائة ضعف، عندما تضحي بحياتك في سبيل الله، الله “سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى” بكرمه، برحمته، بفضله، يأبى لك أن تخسر، وأن تكون ممن خسر حياته، ولذلك يبدلك عن هذه الحياة، بحياة سعيدة، باستضافةٍ كريمةٍ لديه “سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى”، استضافة عظيمة كما أكَّد في هذه الآيات المباركة، فهو ينهى أن نحسبهم، أو أن نتخيل، أو نتصور، أو نظن، أو يكون في حساباتنا وتقديرنا وظنوننا أنهم أموات، ينهانا عن ذلك، ويؤكد بعبارةٍ صريحةٍ واضحةٍ جداً: {بَلْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ}، فهم في ضيافة الله “سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى”، لم يخسروا حياتهم، هم انتقلوا إلى حياةٍ أفضل، هذا هو كل ما في الأمر، انتقلوا من حياة، هذه الحياة بكل همومها، بكل آلامها وشدائدها، بكل معاناتها، إلى حياة سعيدة تماماً، سليمة من كل المنغصات، لا يشوبها كدر، لا يشوبها حَزَن، يعيشون فيها في إطار رعايةٍ إلهيةٍ عظيمة، وتكريمٍ كبير، {عِنْدَ رَبِّهِمْ}: توحي بهذا التكريم الكبير من الله “سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى”، هم ضيوف الله، ضيوف الله “سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى” الكريم، العظيم، الرحيم، هذا فيه مواساة كبيرة، أبلغ المواساة لكل أقربائهم، وأحبائهم، وأعزائهم، وإخوانهم، فيه مواساة كبيرة، لا تقلق على شهيدك، هو حيث هو خيرٌ له مما لو كان عندك، هو يتمنى أن لو كنت عنده أنت؛ لأنه في حياة أسعد وأهنى وأطيب من الحياة التي أنت فيها.
{بَلْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ}، هذا دليلٌ قاطعٌ وواضح على أنهم في حياة حقيقية، أن الله يرزقهم فيها برزقه، ويحظون برعايته الواسعة، ويعيشون في حالة فرحٍ دائم.
{فَرِحِينَ بِمَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ}، آتاهم الشيء العظيم، الواسع، العجيب، الذي يفرحهم به، في ظل عطائه المتجدد والعظيم، فهم دائماً في حالة فرح، لا يساورهم أي هم، ولا أي غم، ولا أي ضجر، ولا أي ضيق، ولا أي ملل، ولا أي نقصٍ يعانون بسببه في شيء، حياة سعيدة بكل ما تعنيه السعادة.
{فَرِحِينَ بِمَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ}، هناك لا هموم، ولا غموم، ولا مشاكل، ولا أحزان، ولا قلق، ولا أي شيء يسبب الهم للإنسان، حالة فرح واستبشار دائمة.
{وَيَسْتَبْشِرُونَ بِالَّذِينَ لَمْ يَلْحَقُوا بِهِمْ مِنْ خَلْفِهِمْ}، لا زالوا يستبشرون لمن بقي وراءهم من إخوتهم في الدرب، في الطريق، في الموقف، في التوجه؛ لأنهم وصلوا هم وسبقوا هم إلى ذلك النعيم العظيم، إلى تلك الحياة السعيدة الطيبة، فهم يتذكرون إخوانهم وأعزاءهم وأحباءهم، ويستبشرون لهم أنهم سيلحقوا بهم إلى ذلك النعيم، إلى تلك الحياة السعيدة.
{أَلَّا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ}، هي غاية ونتيجة يصل إليها الإنسان فيكون آمناً، آمناً للأبد، ولا خوف عليه، ليس في اتجاه يوصله إلى خسارة، أو إلى ضياع، أو إلى ندم لما قدَّم وعمل، أو لما ضحى به، على العكس {أَلَّا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ}، بل هم يستبشرون، يشعرون بالفوز، لا يحزنون على ما ضحوا به، ولا على ما وصلوا إليه وصاروا إليه، بل هم في حالة استبشار، كما قال: {يَسْتَبْشِرُونَ بِنِعْمَةٍ مِنَ اللَّهِ وَفَضْلٍ}، نعمةٍ عظيمةٍ من الله، نعمةٍ واسعة تحقق لهم فيها الأمن الدائم، السلام الدائم، الحياة الأبدية السعيدة، الهناء الذي لا نهاية له ولا انقطاع، {وَفَضْلٍ}: عبارة تشمل كل عطاء الله الذي يشمله التكريم، نعم بتكريم، رعاية بتكريم، وبشكلٍ عظيم.
{وَأَنَّ اللَّهَ لَا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُؤْمِنِينَ}، هذا يعتبر وعداً قاطعاً، وضمانةً إلهية مطمئنة، لا يمكن أن يضيع الله أجرم المؤمنين في تضحياتهم، في عطائهم، في صبرهم، في جهودهم، هي جهودٌ لا تضيع؛ لأن الذي يكتبها هو الله، الذي وعد بها هو الله “سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى”، {وَمَنْ أَوْفَى بِعَهْدِهِ مِنَ اللَّهِ}[التوبة: من الآية111] كما قال في آيةٍ أخرى في سورة التوبة.
هذا يأتي في مقابل ما يقوله المثبطون، في تصويرهم للشهادة كخسارة، في سعيهم لأن يبعثوا حالة الندم والأسف لدى أقرباء الشهداء وأحباء الشهداء، الله يحكي عنهم في القرآن الكريم كيف قالوا: {الَّذِينَ قَالُوا لِإِخْوَانِهِمْ وَقَعَدُوا لَوْ أَطَاعُونَا مَا قُتِلُوا}[آل عمران: من الآية168]، هكذا يقولون: {لَوْ أَطَاعُونَا مَا قُتِلُوا}، فهم يصورون تضحياتهم وكأنها خسارة، وكأنها كانت نتاجاً لعدم قبولهم برؤى المثبطين، والمخذلين، والمتخاذلين، والمتنصلين عن أداء هذه المسؤوليات المقدسة، التي يحقق الإنسان من خلال تحركه فيها استجابته العملية لله “سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى”، {الَّذِينَ قَالُوا لِإِخْوَانِهِمْ وَقَعَدُوا}، هم قعدوا، قعدوا في مقابل أن كان عليهم أن يتحركوا، أن ينطلقوا، كانت مسؤوليتهم ألَّا يقعدوا، بل أن يتحركوا، أن ينطلقوا، أن يقفوا المواقف المشرفة، المواقف الجهادية، المواقف التي يؤدون فيها مسؤولياتهم العظيمة والمهمة، {لَوْ أَطَاعُونَا مَا قُتِلُوا قُلْ فَادْرَءُوا عَنْ أَنْفُسِكُمُ الْمَوْتَ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ}[آل عمران: من الآية168].
ثم تأتي أيضاً الآيات المباركة عن الشهداء، وعن حياتهم، وعن فوزهم، وعن سعادتهم، وعن منزلتهم العالية عند الله “سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى”، لتصحح النظرة العامة التي تساعد على تبني الموقف، والتوجه الصحيح، الذي له قيمته الإيمانية، على المستوى الإيماني هو معيار، معيارٌ للإيمان، استجابتك للتحرك في سبيل الله، للوقوف الموقف الحق في مواجهة الطغاة والظالمين والأعداء، هذا هو موقفٌ له قيمته وأهميته الإيمانية، هو معيار لمصداقيتك في الانتماء الإيماني، كما أكد الله ذلك في آياتٍ كثيرة، وأيضاً له أهميته الأخلاقية والواقعية؛ لأن تحرك الأمة في إطار المواقف الصحيحة، التي تكفل لها حريتها، واستقلالها، وكرامتها، ومنعتها، وعزتها، وقوتها، وقدرتها في التصدي لأعدائها، ولدفع الخطر عنها، هو الذي له ثمرة، هو شيءٌ مطلوب، هو شيءٌ مهمٌ للناس أنفسهم، هو الذي يحمي الأمة، هو الذي يمثل ويشكل منعةً للأمة من خطر أعدائها الحقيقيين عليها.
ولهذا في إطار هذا التصحيح أيضاً، وفي إطار أن تسود الرؤية القرآنية، والمفهوم الصحيح للشهادة، يأتي قول الله “سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى” أيضاً: {وَلَا تَقُولُوا لِمَنْ يُقْتَلُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتٌ بَلْ أَحْيَاءٌ وَلَكِنْ لَا تَشْعُرُونَ}[البقرة: الآية154]، فلا تحسبوا، ولا تقولوا، ممنوع حتى أن تقولوا عنهم أنهم أموات؛ لأنه:
- أولاً: قولٌ ينافي الحقيقة.
- ثم هو يحاول أن يعزز في نفوس الناس النظرة السلبية تجاه مفهوم التضحية في سبيل الله، والشهادة في سبيل الله.
فيؤكد: {بَلْ أَحْيَاءٌ وَلَكِنْ لَا تَشْعُرُونَ}، فهذه مسألة مهمة جداً.
لأهمية الاستجابة والانطلاقة، ومعالجة أكبر عائق يعيق الكثير من الناس عن الاستجابة، وهو الخوف من الموت، يقدِّم الله هذا العطاء، هذه المنزلة، هذا النعيم، هذه الكرامة، هذه السعادة، لمن يحظون بالشهادة في سبيله؛ لأنه لا نصر، ولا عز، ولا قوة، ولا حرية، ولا كرامة، ولا نهضة للأمة، إلَّا إذا كانت في مستوى الاستعداد للتضحية، لا يمكن لأمة يغلب عليها الذل، والوهن، والقلق الشديد والفزع والجزع، والرهبة من الأعداء، والخشية الشديدة من التضحية، أن تعتز، أن تتحرر، أن تكون أمةً تحظى بالعيش الكريم، والكرامة، والعزة، والمنعة، كل الأهداف الكبرى في الحياة، أن نكون أمةً عزيزةً، حُرَّةً، كريمةً، نتحرك باستقلال على أساسٍ من انتمائنا للإسلام، وهويتنا الإيمانية، كل العناوين المهمة لا يمكن أن تتحقق، والأهداف العظيمة، إلَّا مع الاستعداد للتضحية، هذا شيء معروف في الواقع البشري، حتى في غير الأشياء المقدَّسة، في غير الأشياء العظيمة والمهمة للناس، والضرورية لحياتهم، مستوى الطموح لدى الشعوب والأمم لأن يكونوا أقوياء، لأن يكون لهم دورٌ رائد في الحياة، لأن يكونوا في مستوى المنعة من خطرٍ يتهددهم، الكل يدرك أنه لابدَّ من التضحية، فهي مسألة معروفة في الواقع البشري، فما بالك إذا كانت تضحية مكتوبةً عند الله، محسوبةً عند الله، يمنح الله مقابلها الأجر العظيم.
أيضاً مع كل ما أحاط الله هذه التضحية من قدسية، ومنزلة، وفضيلة، ودرجة عالية؛ لتشجعنا على التحرك، على الاستجابة، وربط بها أيضاً النصر والتمكين، يأتي الوعيد على التخاذل، وعلى الوهن، وعلى التفريط، والذي من أكثر عوامله هو الخشية من الموت، هو التهرب من التضحية، القلق من التضحية، وهذا يتكرر كثيراً في القرآن الكريم، من مثل قوله تعالى: {قُلْ لَنْ يَنْفَعَكُمُ الْفِرَارُ إِنْ فَرَرْتُمْ مِنَ الْمَوْتِ أَوِ الْقَتْلِ وَإِذًا لَا تُمَتَّعُونَ إِلَّا قَلِيلًا}[الأحزاب: الآية16]، لن تكون التضحية فقط واردة إذا استجابت الأمة لأداء مسؤولياتها، التي بها عزتها، واستقلالها، وكرامتها، وحريتها، وقوتها، ومنعتها، ودفع الظلم عنها، ودفع الذل عنها، ودفع الاستعباد عنها، قد يمكن للأمة إذا تنصَّلت عن هذه التضحية المقدَّسة، التي ثمارها عظيمة وكبيرة، أن تضحي تضحيةً من نوعٍ آخر، أن تخسر الخسائر الكبيرة، وأن يحصل عليها من الضيم، والذل، والقتل، والاضطهاد، والسحق من جانب الأعداء، الشيء الرهيب والأكثر بكثير مما كانت ستقدِّمه الأمة في إطار تضحيةٍ مقدَّسةٍ، عظيمةٍ، مثمرة، ثمارها: حرية، وكرامة، وعزة، واستقلال… وغير ذلك، وفوز برضوان الله وجنته، والحياة الطيِّبة السعيدة التي وعد بها الله، الأمة لا تسلم، إذا اختارت الأمة الفرار من التضحية المقدَّسة، المثمرة، العظيمة، التي لها ثمرتها في الدنيا والآخرة، لها نتائجها التي وعد بها الله “سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى”؛ فهي تتجه إلى أن تدفع ثمناً باهضاً، وكلفةً رهيبة، ولا يمكن لها أن تسلم لا من أعدائها، ولا من الموت؛ لأن الموت شيءٌ حتمي، الإنسان يعيش في هذه الحياة بأجل، ورحيله عن هذه الحياة هو أمرٌ حتمي، وهو لا يعرف متى سيرحل بالتحديد، الكثير من الناس قد يرحل وهو في مرحلة الشباب، والبعض في بداية العمر، والبعض في مراحل أخرى من حياتهم، الإنسان يعيش بأجل، الرحيل من هذه الحياة هو حتمي، لا ينجي منه التهرب من التضحية المقدَّسة، أو احتمال التضحية المقدَّسة في إطار الاستجابة لله، والتحرك في سبيله، والوقوف الموقف الصحيح، الذي يرضي الله، وهو خيرٌ للأمة، فلن ينفع الفرار، مثلما قال في الآية المباركة: {قُلْ لَنْ يَنْفَعَكُمُ الْفِرَارُ إِنْ فَرَرْتُمْ مِنَ الْمَوْتِ أَوِ الْقَتْلِ وَإِذًا لَا تُمَتَّعُونَ إِلَّا قَلِيلًا}، قد يأتي التسليط الإلهي للأعداء على الأمة، فتدفع الأمة كلفةً هائلة، يُقتَل منها أكثر بكثير وبشكلٍ مضاعف مما كانت ستضحي به في إطار الموقف الحق، {وَإِذًا لَا تُمَتَّعُونَ إِلَّا قَلِيلًا}، يعني: قد يكون الفارق زمناً يسيراً، ثم تأتي أحداث كارثية، ومشاكل كبيرة، تسحق الأمة، وتكبِّدها الخسائر الكبيرة، من دون أن تكون تضحيةً مقبولة، وليس عليها أجر، ولا لها فضل، ولا لها قيمة، ولا لها ثمرة، ولا لها عاقبة إيجابية في واقع الأمة، ولا نتيجة جيدة في واقع الأمة، وتلك هي الخسارة.
يقول الله “سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى” أيضاً، وهو يوبِّخ، ويعاتب، ويكشف سوء رأي البعض، ممن يمتلكون نظرةً سلبية تجاه التضحية في سبيل الله، واحتمال التضحية في سبيل الله: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ قِيلَ لَهُمْ كُفُّوا أَيْدِيَكُمْ وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ فَلَمَّا كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقِتَالُ إِذَا فَرِيقٌ مِنْهُمْ يَخْشَوْنَ النَّاسَ كَخَشْيَةِ اللَّهِ أَوْ أَشَدَّ خَشْيَةً وَقَالُوا رَبَّنَا لِمَ كَتَبْتَ عَلَيْنَا الْقِتَالَ لَوْلَا أَخَّرْتَنَا إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ قُلْ مَتَاعُ الدُّنْيَا قَلِيلٌ وَالْآخِرَةُ خَيْرٌ لِمَنِ اتَّقَى وَلَا تُظْلَمُونَ فَتِيلًا (77) أَيْنَمَا تَكُونُوا يُدْرِكْكُمُ الْمَوْتُ وَلَوْ كُنْتُمْ فِي بُرُوجٍ مُشَيَّدَةٍ}[النساء: 77-78]، فالتهرب من الاستجابة لله “سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى” في المواقف المهمة، التي هي خيرٌ للأمة، ورضوانٌ لله “سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى”، لن ينجي الإنسان من الموت، لن يضمن للإنسان البقاء على الدوام؛ أمَّا الاحتمال الذي يجعل البعض يتهرب من الاستجابة لله (احتمال الشهادة)، فمعناه: التهرب من الانتقال إلى حياة للسعادة الأبدية.
يقدِّم القرآن الكريم أيضاً درساً عجيباً ومهماً عن قومٍ من الأقوام، كانت لديهم هذه الرؤية تجاه احتمال الشهادة، تجاه التضحية في سبيل الله، في إطار الموقف الصحيح الذي يحميهم، يدفع عنهم خطر أعدائهم، يقول الله تعالى: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ خَرَجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ وَهُمْ أُلُوفٌ حَذَرَ الْمَوْتِ فَقَالَ لَهُمُ اللَّهُ مُوتُوا ثُمَّ أَحْيَاهُمْ إِنَّ اللَّهَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَشْكُرُونَ (243) وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ}[البقرة: 243-244]، أولئك القوم كانت عندهم تلك النظرة إلى التضحية في سبيل الله “تَبَارَكَ وَتَعَالَى”، نظرة سلبية جداً، كانت عندهم نظرة إلى أنَّ التضحية في سبيل الله تعالي هي نهاية، هي خسارة، فسببت لهم روح الهزيمة، فانهزموا، هربوا، هربوا وخرجوا من ديارهم أمام أعدائهم، ومكَّنوا العدو من بلدهم، {وَهُمْ أُلُوفٌ} أعداد كبيرة بالآلاف، لكنهم هربوا حذر الموت، فكانت النتيجة كما قال الله: {فَقَالَ لَهُمُ اللَّهُ مُوتُوا}، أماتهم الله “سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى”؛ ليكون ذلك درساً لهم، ودرساً لغيرهم، وعبرةً لغيرهم، {ثُمَّ أَحْيَاهُمْ}، يأتي التعقيب لذلك: {إِنَّ اللَّهَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَشْكُرُونَ (243) وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ}، يعني: لا تهربوا من دياركم، لا تهربوا وأنتم ألوف حذر الموت، أيُّها الناس، أيُّها الأقوام الآخرون، أيَّتها الأمم، أيَّتها الأجيال الأخرى: لا تهربوا، أمام مواجهة الأخطار استعينوا بالله، التجئوا إلى الله، أدُّوا مسؤولياتكم، تحرَّكوا في سبيل الله؛ والله سينصركم، {وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ}.
بل قدَّم درساً حتى في السيرة النبوية، عندما تحرَّك رسول الله “صَلَوَاتُ اللَّهِ عَلَـيْهِ وَعَلَى آلِه” في غزوة بدرٍ الكبرى، وهي كانت فاتحةً لغزوات الرسول “صَلَوَاتُ اللَّهِ عَلَـيْهِ وَعَلَى آلِه”، ولحمل راية الجهاد في سبيل الله تعالى، كان البعض من المؤمنين كارهون للخروج؛ بسبب هذه النظرة، فأتى قول الله “سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى”: {كَمَا أَخْرَجَكَ رَبُّكَ مِنْ بَيْتِكَ بِالْحَقِّ وَإِنَّ فَرِيقًا مِنَ الْمُؤْمِنِينَ لَكَارِهُونَ (5) يُجَادِلُونَكَ فِي الْحَقِّ بَعْدَمَا تَبَيَّنَ كَأَنَّمَا يُسَاقُونَ إِلَى الْمَوْتِ وَهُمْ يَنْظُرُونَ}[الأنفال: 5-6]، لاحظ كيف قوله: {كَأَنَّمَا يُسَاقُونَ إِلَى الْمَوْتِ وَهُمْ يَنْظُرُونَ}، هذه النظرة سببت عندهم كراهية الخروج، كراهية التحرك، كانوا يتوقعون وكأن المسألة خروج إلى الموت، ونهاية للحياة، وخسارة للحياة، فكان هذا مؤثراً عليهم، فخرجوا وهم كارهون، ويجادلون رسول الله “صَلَوَاتُ اللَّهِ عَلَـيْهِ وَعَلَى آلِه” فيما هو حقٌ قد تبين، {يُجَادِلُونَكَ فِي الْحَقِّ بَعْدَمَا تَبَيَّنَ}، هذه النظرة لها أثر سلبي، تسبب للكثير من الناس التقاعس، التخاذل، التنصل عن المسؤولية، النظر إلى الاستجابة لله “سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى” في هذه المسألة المهمة في التحرك في سبيل الله، الذي هو أمرٌ ضروريٌ للأمة، في دينها ودنياها، في حريتها واستقلالها، في عزتها وكرامتها، في صلاح أمرها في الدنيا والآخرة، هذه مسألة مهمة جداً، فيأتي القرآن ليعالجها، وليبين أنَّ ثمرة التحرك في سبيل الله ثمرة عظيمة، من نتائجها: العزة، والنصر، والتمكين في الدنيا، والفوز بما عند الله بما هو خيرٌ من هذه الدنيا، وخيرٌ من هذه الحياة وما في هذه الحياة، وفوزٌ عظيم.
أيضاً هذا المفهوم الصحيح هو إنقاذٌ للأمة من هدر طاقتها وتضحياتها:
- إمَّا في صف الباطل؛ لأن الأمة لن تسلم، إذا تركت التحرك الصحيح، الذي هو مسؤوليةٌ عليها، وخيرٌ لها، ومرضاةٌ لربها “سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى”، فهي لن تسلم، خسارةٌ عليها:
- إمَّا أن يحشرها الأعداء رغماً عنها، ويدفعون بها دفعاً للقتال في صف الباطل، وما أكثر من يقاتلون اليوم، من يقاتلون في هذا الزمن في صف الباطل، في صف أمريكا وإسرائيل، وخدمة أمريكا وإسرائيل من أبناء الأمة! وما أكثر من قُتِلُوا في ذلك، قُتِلَوا وقَاتَلوا قبل ذلك حيث أرادت منهم أمريكا أن يقاتلوا، حيث أرادت منهم إسرائيل أن يكونوا، فقاتلوا وقُتِلُوا وخسروا، هذا هدر لطاقة الأمة، هذا هو الخسارة الحقيقية للناس.
- أو أن يقتل الناس في حالة الاستسلام، والعجز التام، والانسحاق بجبروت الأعداء، يعني: الأعداء إذا تمكنوا، هم لا يتركون الأمة لحالها، هم يدخلون في برامج لاستهداف الأمة بأساليب متنوعة، بأساليب متعددة، بوسائل كثيرة، ويسحقون الشعوب، فتكون الخسائر رهيبة، وكبيرة، ولكن ليست في إطار موقف، ليست في إطار عمل، ليست في إطار الأخذ بأسباب النصر الإلهي، كما قال تعالى: {إِنْ تَنْصُرُوا اللَّهَ يَنْصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ}[محمد: من الآية7]، بل هي في حالة التخاذل، والاستسلام، والتنصل عن المسؤولية، فتكون الخسائر كبيرة، فلا كان الناس نهضوا بمسؤولياتهم، وقدَّموا التضحيات في إطار ذلك، ليحققوا نتائج مهمة عند الله “سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى” في الدنيا والآخرة، وكانت الخسارة كبيرة جداً في إطار الذل والاستسلام.
- وإمَّا في قضايا عبثية، لا تستحق هدر التضحيات من أجلها، نجد الكثير من الناس- مثلاً- قد يتحمَّسون على القتل والقتال، والمعارك الضارية، من أجل قضايا لا تستحق حتى أن تسيء فيها بكلمة إلى أخيك المسلم، نزاع بسيط على أرض، مشكلة، أو خلاف، أو تشاجر، أو نزاع في قضايا بسيطة معينة، يمكن حلها بكل بساطة، إذا توفرت الإرادة الصادقة، والوعي، وصفاء النفس، يمكن حلها بصلح، يمكن حلها في نهاية الأمر بحكم قضائي، كثير من الناس تجدهم يتحمَّسون بشدة، ويدعون إلى النكف القبلي، أو النفير العام، ويندفعون بكل حماس، من أجل قضايا من هذا النوع، هذا هدر لطاقة الأمة، خسارة حقيقية لقضايا لا تستحق ذلك، ولا يستوجب الأمر فيها ذلك، قضايا التوجيه من الله فيها أن تعالج، أن تحل بطريقة أخوية، بالتصالح إن أمكن، وإلَّا فبالأحكام القضائية.
عندما يرتقي وعي الأمة، وعندما يتصحح توجهها الصحيح في إطار قضاياها المهمة والكبيرة، ومسؤولياتها المهمة؛ ترتقي عن العبث والتضحيات التي هي عبثية، لا حاجة لها، هي فتحٌ لجروح في جسد الأمة من الداخل، هي استجابةٌ لنزغات الشيطان، {وَقُلْ لِعِبَادِي يَقُولُوا الَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ الشَّيْطَانَ يَنْزَغُ بَيْنَهُمْ إِنَّ الشَّيْطَانَ كَانَ لِلْإِنْسَانِ عَدُوًّا مُبِينًا}[الإسراء: الآية53]، وتجد البعض يتحمَّس لهذا النوع من المشاكل، ويرى أنها تستحق التضحية بكل شيء، ولو كان الكل سيفنى في مقابل ذلك لا مشكلة عنده، وقد لا يتفاعل بالشكل المطلوب، أو لا يتفاعل أصلاً مع القضايا المهمة، المقدَّسة، التي تستحق العطاء والتضحية، وبذل النفس في سبيل الله “تَبَارَكَ وَتَعَالَى”.
هذه الرؤية القرآنية تجاه الشهادة، ومفهوم الشهادة في سبيل الله، هو من أحوج ما تحتاجه الأمة في هذه المرحلة، كما في كل مراحلها التي مضت، وفي هذه المرحلة بشكلٍ كبير؛ لأن الأمة تواجه في هذه المرحلة تحديات كبيرة جداً، أعداؤها قد قطعوا شوطاً كبيراً في استهدافها واختراقها من الداخل، وطمعهم كبير في ثروات هذه الأمة، في أوطان هذه الأمة، في السيطرة على أبناء هذه الأمة واستغلالهم بما فيه خدمة اعدائهم، وواقع هذه الأمة على المستوى العام معروف، حالة الاستهداف العدائي من جانب الأمريكيين، والاسرائيليين، وحلفائهم، وأعوانهم، لهذه الأمة على كل المستويات:
- على المستوى السياسي.
- على المستوى العسكري.
- على المستوى الاقتصادي.
- على المستوى الثقافي.
- على المستوى الأخلاقي.
- على المستوى الاجتماعي.
- على المستوى الأمني.
استهدافٌ شامل بكل ما تعنيه الكلمة، والأمة تعاني أشد المعاناة، الأمة في ظل هذا الاستهداف تستهدف نفسياً، مساعي من جانب الأعداء مكثفة لإفساد الأمة، لضربها في كل عوامل القوة المعنوية أولاً؛ لأنه أول ما تحتاجه الأمة لتكون في مستوى مواجهة التحديات، وأول ما يركز عليها الأعداء، ويدركون أنهم لن يتمكنوا من السيطرة على هذه الأمة إلَّا بعد أن يركزوا على هذ الجانب، وأن يستهدفوا الأمة فيه، وهو الجانب المعنوي، العوامل المعنوية، التي تجعل الأمة مستجيبة، ومتحركة، ومنطلقة، وتستشعر مسؤوليتها، وتستعين بالله “سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى”، وترتقي نفسياً ومعنوياً، وبالإرادة والعزم والوعي إلى مستوى مواجهة التحديات.
الأعداء يشتغلون في الحرب الناعمة، التي يسمونها بالحرب الناعمة، على المستوى الثقافي والفكري، وعلى المستوى الأخلاقي؛ لاستهداف أبناء الأمة وشباب الأمة بالدرجة الأولى، هذه حرب تستهدف الأمة في عامل القوة المعنوي، الإرادة، المعنويات، الجانب الإيماني للناس، الجانب المبدئي والأخلاقي والقيمي، ويسعون إلى تفريغ الأمة منه؛ لتسهيل السيطرة عليها؛ لأنهم يعتبرون هذا وسيلة سيطرة على الأمة.
يعملون أيضاً على التمييع لشباب الأمة، وعلى الدفع بهم نحو الرذيلة، والفسق، والفجور، كما يحصل- مثلاً- في نشاط هيئة الترفيه في السعودية، ويستهدفون في بقية المجتمعات بشكل أو بآخر، لا يتمكنون بتلك الطريقة؛ لأن النظام في السعودية هو الذي يرعى ذلك النشاط الهدَّام، والتخريبي، والفاضح، والمسيء، والمتنكِّر لأخلاق الإسلام وقيمه المعروفة، الجوانب الأخلاقية، فهم يعملون على ذلك، لماذا؟ لأنهم يدركون أنهم إذا نجحوا في تمييع شباب الأمة، فقد ضربوا الأمة ضربةً قاضية، سيكون شباب هذه الأمة الإسلامية أبعد ما يكونون عن أن يقفوا المواقف الشجاعة، عن أن يحملوا القيم المتمثلة بالعزة، والكرامة، والإباء، والحرية… وكل القيم والمبادئ العظيمة، قد فرِّغوا منها، هل سيغضبون من أجلها؟! هل سيهمهم ذلك؟! إذا مَيَّعوهم، ضربوهم الضربة القاضية.
أيضاً هم يحاولون أن يضربوا الروحية الإيمانية في الجهاد بمعناه الصحيح، والاستشهاد في سبيل الله بمعناه الصحيح؛ لأنهم يعرفون أهميته في الارتقاء بالأمة إلى مستوى مواجهة جبروت الأعداء، الأعداء يشتغلون بكل الوسائل:
- التمييع لمن سيقبل بذلك، ويتأثر بذلك، التمييع، والدفع نحو الرذيلة، والضياع، وإفساد القيم والأخلاق، وشراء الذمم بالأموال.
- وفي المقابل أيضاً يستخدمون سلاح الجبروت، والبطش، والهمجية، والطغيان، والتوحش، والإجرام، والقتل الجماعي، والتدمير، كوسيلة أخرى لإذلال الشعوب، ولكسر إرادتها، ولتحطيم معنوياتها، ولإجبارها وإخضاعها للاستسلام.
مفهوم الشهادة وفق الرؤية القرآنية هو:
- يحمي الأمة من الضياع، والتمييع، والرذيلة، والفساد.
- يرسِّخ المبادئ والقيم العظيمة.
- يربي الإنسان على الإباء والعزة والكرامة.
- وهو أيضاً يرتقي بالأمة إلى كسر هذا الحاجز: حاجز الترهيب والسطوة والجبروت.
- وبالتالي يرتقي بالأمة إلى مستوى التحرك لمواجهة الأعداء، مهما كان جبروتهم، مهما كان طغيانهم، مهما كانت وحشيتهم.
والنماذج واضحة، من حملوا هذا المفهوم بشكلٍ صحيح كيف تحركوا في الجبهات عندنا في اليمن، كيف قدَّموا أروع الأمثلة، في البطولة، والاستبسال، والفداء، والاقدام، والجرأة، والشجاعة، كيف أيضاً في الجبهات الأخرى في فلسطين، هناك نماذج راقية، وقدَّمت مواقف بطولية متميزة، في لبنان، في العراق… في مختلف أقطار الأمة، كان هناك من يحملون هذا المفهوم الصحيح، من تحركوا بهذا المستوى من الجرأة، والشجاعة، والتفاني، والاستبسال، والاقدام، وبالعزة الإيمانية، هذا مفهوم عظيم يرتقي بالأمة من حالة الذل.
ثم أيضاً هو في الاتجاه الصحيح يحمي الأمة من الاستهلاك لصالح أعدائها في إطار نفس العناوين؛ لأن هناك أيضاً استقطاب في داخل الأمة حتى تحت العناوين الجهادية، لخدمة أمريكا وإسرائيل، وخدمة الأجندة الأمريكية والإسرائيلية، بعد أن تجلت الحقائق على نحوٍ غير مسبوق، وأكثر من أي وقتٍ مضى، الفرز في داخل أمتنا- على المستوى العربي والإسلامي عموماً- هو فرزٌ في هذه المرحلة بالذات على نحوٍ غير مسبوق، تجلى وبكل وضوح من يوالي أمريكا وإسرائيل، من يتجه تحت عنوان التطبيع مع إسرائيل، من يشترك مع أعداء الأمة في توجهاتهم، في مواقفهم، ينضم إلى صفهم وهم في حالة حربٍ مستمرة على الأمة، حتى في هذه الأيام، والدم الفلسطيني يسيل كل يوم، دول عربية تستقبل زعيم الصهاينة، وتحتفي به، وتستضيفه، وتؤكِّد على الشراكة والعلاقة الحميمية مع العدو الإسرائيلي، حتى في هذه الأيام والدم الفلسطيني يسيل في كل يوم، حالة الفرز والوضوح في الجبهات، جبهة أمريكا وإسرائيل، ومن في صف أمريكا وإسرائيل، جبهة واضحة، عارية، منكشفة للأمة، وأكثر من أي وقتٍ مضى، وهي تعادي من له موقف ضد العدو الإسرائيلي من أبناء الأمة، كل أحرار الأمة الذين لهم موقف صريح وواضح ضد العدو الإسرائيلي، يتجه أولئك الذين يتحرَّكون تحت عنوان التطبيع بالعداء الشديد له، والمسألة واضحة إلى حدٍ كبير، فقليلٌ من الوعي- لا يحتاج الإنسان حتى إلى عمق كبير في مستوى الوعي- قليلٌ من الوعي، شيءٌ من البصيرة، يجعل الإنسان يعرف واقع هذه الجبهات؛ وبالتالي يساعد هذا على أن يختار الإنسان وجهته وموقفه على نحوٍ صحيح.
في إطار هذا الواقع الذي تعيشه الأمة، والاستقطاب الحاد، والدفع الشديد، البعض من الناس قد يغيِّر اتجاهه نتيجةً للضغط بالترهيب، والترغيب، واللوم، والحملات الإعلامية الشرسة المنظَّمة والمتنوعة، والتي تتحرك تحت كل عناوين اللوم والتوبيخ، فالإنسان بوعيه، وإيمانه، وصبره، واستعداده للتضحية في سبيل الله، سينطلق بكل حرية، وبكل إباء، وبعزمٍ قوي، لا يؤثر عليه شيء، ولا يصرفه شيء، ولا يرده شيء.
فيما يتعلق بما يعانيه شعبنا، والمشكلة الرئيسية لشعبنا كما قلنا في عدة مناسبات، وهذه مناسبة من المناسبات المهمة، التي ينبغي أيضاً فيها الحديث بوضوح عن حقيقة المشكلة للآخرين مع شعبنا، نحن قلنا مراراً وتكراراً: هناك مشكلتان أساسيتان، على أساسهما يحارب تحالف العدوان شعبنا العزيز، شعبنا اليمني المسلم:
- الأولى: هو التوجه التحرري لأحرار هذا البلد، الذين يريدون لشعبهم، ولبلدهم، ولوطنهم، أن يكون بلداً حراً، عزيزاً، كريماً، مستقلاً، على أساسٍ من هويته الإيمانية وانتمائه للإسلام؛ لأن الأمريكي والإسرائيلي والبريطاني، والكثير من الدول الأوروبية، وأدواتهم الإقليمية، السعودي والإمارات، كلهم يريدون اليمن أن يكون محتلاً، خاضعاً بالمطلق لهم، مستسلماً لهم، خانعاً لهم، وأن تكون مصلحتهم هي المأخوذة بعين الاعتبار قبل كل شيء في هذا البلد:
أن يجعلوا لهم القواعد العسكرية في أي مكان من هذا البلد، في أي مكانٍ استراتيجي في هذا البلد، في الجزر، في المحافظات المهمة، أن يسيطروا على منشآته الحيوية سيطرةً مباشرة.
أن يكون الوضع السياسي في هذا البلد خاضعاً لهم، إلى درجة أن يكونوا هم من يختار من هو بمستوى رئيس، أو بصفة رئيس، أو بصفة رئيس وزراء، أو بصفة وزير، إلى مستوى مدير، أن يكون إليهم هم أولاً حق الاختيار، أن يختاروا هم: [هذا يكون وزير، هذا يكون رئيس، هذا يكون وزير، هذا يكون مسؤول كذا، هذا يكون محافظ، هذا يكون مدير أمن]، أن يكون ذلك إليهم هم، وإذا أرادوا أن يغيِّروه، يغيِّروه بكل بساطة، حتى ولو كان بمستوى باسم رئيس، يكفي أن يرسلوا إليه ضابط مخابرات ليلقي عليه الأوامر، ويذعن لذلك، فيقدم استقالته، أو يعزل بكل بساطة.
على مستوى الثروات: يريدون أن تكون مصالح هذا الشعب من نفطه، وغازه، وكل ثرواته المهمة، أن تكون لهم هم، وألَّا يحصل هذا الشعب إلَّا على القليل القليل، والفتات اليسير، ويبقى وضعه الاقتصادي والمعيشي مأزوماً للغاية، أن يبقى الشعب يعاني أشد المعاناة، فيما تذهب مئات المليارات لصالح الشركات الأمريكية، والبريطانية، والفرنسية، والكندية، ويمكن أن يعطوا بعض عملائهم الخونة البعض من ذلك الفتات اليسير كرشوة لهم، ويبقى شعبنا يعاني، وهم- حتى في هذه المرحلة عندما أتت الهدنة، وما بعد الهدنة إلى اليوم- يستكثرون على شعبنا أن يحصل على المرتبات من نفطه وغازه، إلى هذا المستوى، عندهم مشكلة كبيرة جداً، وكارثة؛ بينما هو من الحقوق المعروفة في كل الدنيا حقٌ مستحقٌ بكل وضوح، ولكنهم يحاولون أن يمنعوا ذلك، يستكثرون على شعبنا أن تدخل المشتقات النفطية إليه والبضائع والاحتياجات الضرورية إليه بثمنها وقيمتها، إلَّا بعد عناء شديد، وبشكل مستمر، يتقطَّعون في البحر، حتى بعد أن تكون السفن مرخَّص لها، وتكون أيضاً مفتشة، ولم يبقى إلَّا أن تتجه إلى ميناء الحديدة، يحاولون منعها من الوصول، ويؤخرونها لفترة طويلة؛ حتى يتحمَّل التاجر غرامات إضافية، ثم يحمِّل هذه الغرامات الإضافية في أسعار بضاعته عندما يبيعها للمواطن الفقير؛ لأنهم يريدون هذه النتيجة بالتحديد: أن يعاني كل مواطن، وأن تعاني الطبقة الكبيرة من أبناء هذا الشعب، وهم الفقراء، أن يعانوا أكثر، يستكثرون على هذا المواطن اليمني أن تصل إليه البضائع بأسعارها الحقيقية، يريدون ألَّا تصل إلَّا بأسعار باهظة، وهكذا يعادون هذا الشعب، ويحاربونه في كل شيء، كل هذا في إطار توجههم العدائي لهذا الشعب، كما هم يعادون كل الأمة الإسلامية، هم يعادون في المقدِّمة هذا الشعب، وعداء عام؛ لأن كل هذه الممارسات والسياسات من جانبهم هي تلحق الضرر العام بكل أبناء هذا الشعب، حتى في المناطق المحتلة، أو أنَّ الوضع الاقتصادي في عدن، أو في أبين، أو في حضرموت، أو في المهرة، أو في سقطرى، يختلف عن الوضع الاقتصادي عنا من حيث الرخص، أو من حيث الأسعار، أو من حيث توفر المحتاجات اللازمة للناس، أو من حيث النهضة الاقتصادية، وضع بئيس أكثر بؤساً من محافظاتنا؛ لأنها سياسات عدائية ضد هذا الشعب، هذا تحدي يواجهه هذا الشعب، مشكلتهم هي هذه المشكلة، هم يريدون يمناً محتلاً، فاقداً للاستقلال والحرية، خانعاً لهم، مستسلماً لهم، يتحكمون به في كل الأمور صغيرها وكبيرها، ويمسخون هويته الإيمانية، التي شرَّفه الله بها، وأعلنها رسول الله “صَلَوَاتُ اللَّهِ عَلَـيْهِ وَعَلَى آلِه” يوم قال: ((الإِيمَانُ يَمَانٍ، وَالحِكْمَةُ يَمَانِيَّة))، ثم هكذا في بقية الأمور.
على مستوى الجيش: هم لا يريدون جيشاً وطنياً يحمي وطنه من الاحتلال الأجنبي، ويحقق لبلده الحرية، ويحمي سيادة واستقلال البلاد، هم يريدون مجاميع من المقاتلين تحت أسماء وعناوين متعددة، يقاتلون تحت إمرة الضباط الإماراتيين والسعوديين، وفي نفس الوقت أولئك الضباط تحت إمرة ضباط بريطانيين وأمريكيين وإسرائيليين.
هذا الوضع هو الذي يريدون أن يصمموا عليه واقع البلاد، وأن يبقى دائماً مأزوماً بالمشاكل الاقتصادية وغيرها، وبالأزمات السياسية، وبالمشاكل الاجتماعية، يريدون أن يفرضوا علينا هذا النمط الذي يفصِّلونه هم حسب أهوائهم ومزاجهم، ونحن من الطبيعي ألَّا نقبل بذلك؛ لأنه- كما قلنا مراراً وتكراراً- لو قبلنا بذلك؛ لكانت خسارة للدين والدنيا والآخرة، ما الذي يمكن أن يجعلنا نقبل بذلك؟ هل الخشية من التضحيات؟ كلفتها مع الاستسلام أكثر، هل تصور أنَّ هذا سيخرجنا من بعض المعاناة، التي نعاني منها ونحن في إطار الموقف الحق، الموقف الصحيح؟ لن تكون النتيجة لو فرطنا وقصرنا إلَّا ما هو أسوأ من ذلك، معاناة بدون نتيجة طيِّبة، بدون أثر مهم، بدون تحقيق أهداف كبيرة.
ولــذلك لا يمكن أن نقبل على الإطلاق بما يريدونه هم، يمناً محتلاً، يأتي الأمريكي، والبريطاني، والإماراتي، والسعودي، ليضع فيه قواعده العسكرية أينما يريد، أينما يختار، في أهم المواقع الاستراتيجية، ويتحكم بالوضع السياسي فيه، من مستوى رئيس إلى مدير عام، ويتحكم بكل شيء في هذا البلد، وينهب ثرواته، هذا لا يمكن أن نقبل به أبداً.
ألم تفضحهم تلك المحافظات التي لم يكن فيها جبهات؟ ألم يفتضحوا بحضرموت؟ ألم يفتضحوا في المهرة؟ ألم يفتضحوا في سقطرى؟ ذهبوا إلى هناك، وجعلوا لهم قواعد عسكرية، مع أنه ليس هناك أي جبهات، واضح أنهم يريدون الاحتلال، يريدون السيطرة، ويريدون التحكم بكل شيء في هذا البلد، وبنزعة عدائية وإجرامية، وبدون أي ذرة من الاحترام لأبناء هذا الشعب، هل هم يحترمون حتى مرتزقتهم الخونة الذين خانوا وطنهم، هل هم يحترمونهم؟ البعض يذهب ليرهن زوجته وأسرته عند الإماراتي، يجعلهم رهائن؛ ليخضع لهم، ليثبت صدق خنوعه لهم، عندما يريدون أن يحبسوا حتى من هو بصفة رئيس، أو وزير، يهينونهم، يذلونهم، لا يحملون أي ذرة من الاحترام لأبناء هذا الشعب، هذا التحدي هو الذي يمثل مشكلةً بيننا وبينهم.
- ثم على مستوى الموقف الخارجي: هم يريدون منا أن نتوجه توجهاتهم: أن نطبِّع مع إسرائيل، أن نعادي الشعب الفلسطيني، أن نعادي أحرار أمتنا، أن نعادي الجمهورية الإسلامية في إيران لغير أي سبب، لا حاربتنا، ولا اعتدت علينا، ولا فعلت بنا أي شيء، بل أعلنت موقفاً متميزاً عن كل الدول في التضامن مع شعبنا، في مناصرة شعبنا، هكذا أن نعادي؛ لأنهم يكرهون إيران؛ لأن إسرائيل وأمريكا تريد منهم ذلك، أن نعادي حزب الله، الذي وقف أشرف موقف في الوطن العربي معنا، أن نعادي أحرار العراق، ماذا فعلوا بنا حتى نعاديهم؟ هل هم الذين قصفونا بالطائرات في أسواقنا، وقتلوا الآلاف من أطفالنا ونسائنا، أم أنه تحالف العدوان الذي فعل ذلك؟ فالمشكلة معنا في هذين الأمرين.
على المستوى الوطني: نحن نصرُّ على التحرر، والاستقلال، والكرامة، والعزة لبلدنا؛ لأن هذا جزءٌ من ديننا، نحن قلنا مراراً وتكراراً: حريتنا جزءٌ أساسيٌ في ديننا، بل هي أول عنوان لديننا: حريتنا من هيمنة الطواغيت والظالمين والمستكبرين.
على المستوى الإسلامي: نحن لن نعادي أي بلد إسلامي من أجل من أمريكا وإسرائيل، لن نعادي أي بلد إسلامي من أجل أمريكا وإسرائيل، لو فعل عملاؤهم ما فعلوا، لو قالوا ما قالوا، موقفنا مبدئي وواضح، وموقف عام تجاه أي بلد إسلامي، ليس فقط الجمهورية الإسلامية في إيران، أي بلد إسلامي، لسنا كالسعودي، ولسنا كالإماراتي، لسنا كآل خليفة في البحرين، نكون قد وطَّنا أنفسنا أن نتلقى التوجيهات من أمريكا: [عادوا أولئك، اقطعوا العلاقات مع أولئك، اتخذوا موقفاً ضد أولئك]، اتخذوا مواقف حتى ضد الفلسطينيين، صنَّفوا الحركات المجاهدة في فلسطين صنَّفوها بالإرهاب، كلٌّ من الإماراتي والسعودي وآل خليفة في البحرين، لماذا؟ وهي تتصدى لإسرائيل، المحتل لفلسطين بإجماع أهل الدنيا، فقالوا: [أنتم إرهابيون]، وسجنوا من حركة حماس في سجونهم بهذه التهمة، في الموقف من إسرائيل، باطل الباطل الواضح المكشوف، نحن على بصيرةٍ من أمرنا، وبيِّنةٍ في موقفنا، لسنا في موقفٍ ملتبس نتردد فيه، أو نضطرب.
ولــــذلك هذا الأساس في مشكلتهم معنا يجب عليهم أن يتجاوزوه هم، طالما وهم يستكثرون على شعبنا الحصول على المرتبات، الحصول على حقوقه المشروعة، وصول البضائع إليه، هذه مشكلة كبيرة بيننا وبينهم، يعني: هي أمور لا يمكن أن نتنازل عنها، لا يمكن أن نتنازل عنها، ليس المقام مقام مناورات سياسية، البعض قد يتصور أننا لا نمتلك المرونة السياسية، هل يمكن أن يكون في إطار المناورة السياسية، والمرونة السياسية، أن نقبل باحتلال بلدنا، أن نقبل بإخضاع هذا البلد وهذا الشعب العزيز الحر المؤمن تحت الهيمنة الأمريكية والبريطانية والإسرائيلية والغربية والسعودية والإماراتية؟!
الحرية أمر لا يمكن أن ندخله في مزاد المساومة، الكرامة والعزة أمر لا يمكن أن ندخله في مزاد المساومة، ولا وجود له عندنا نحن في قاموسنا السياسي؛ لأنه قاموس مبدئي، مبني على مبادئ، مبني على قيم، مبني على أساسٍ من ثقافتنا القرآنية.
ثم على المستوى الاقتصادي: هل يمكن أن نقبل بأن يذلوا شعبنا، وأن يصل ظلمهم لشعبنا إلى درجة أن يمنعوا عنه حتى الاحتياجات الضرورية من وصولها إليه؟! حتى في القانون الدولي، الذي هو لهم بمثابة القرآن عندنا، لم يعملوا به هم، يمنعون عن هذا البلد وعن هذا الشعب العزيز وصول ما يستحق وصوله، وما هو مكفولٌ له كحق في أن يصل إليه من تلك الأشياء الضرورية.
هذه المشكلة هي التي تدور عليها الآن رحى الصراع بيننا وبينهم، يعني: لا زالت الأمور تُرَاوِحُ مكانها هنا، لماذا؟ لأن الأمريكي- وهو أصل المشكلة، هو أصل المشكلة الأمريكي- هو مستفيدٌ من الحرب، وهو لا يريد إلَّا سلاماً يستفيد منه، والسلام الذي يستفيد منه الأمريكي هو استسلام بالنسبة لنا، هو سيطرة على البلد، واستباحة لثروة الشعب، وإهانة وإذلال ومصادرة للحرية والاستقلال، هذا لا يمكن أن نقبل به، عليهم أن يراجعوا هم سياساتهم.
إذا اتجهت الأمور من جديد إلى التصعيد، نتيجةً لتصعيدهم على المستوى الاقتصادي، أو العسكري، فإننا معنيون أن نستعين بالله “سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى” كما كنا في كل هذه المراحل، وكما كانت نتيجة ذلك في كل المراحل الماضية فكنا في موقفنا إلى قوةٍ أكبر، وإلى فاعليةٍ أكثر، وكانت- بتوفيق الله ومعونته ونصره- الضربات أكبر فأكبر لهم.
أريد أن أقول لشعبنا العزيز: أنَّ الأعداء في هذه المرحلة يحاولون أن يضعونا بين خيارات غير منصفة، ولا عادلة، والشيء الذي لا يمكن أن نقبل به على الإطلاق هو: التفريط في كرامة هذا الشعب، في استقلال هذا البلد، في حرية هذا الشعب، هذه مسائل مهمة جداً، ولا في مواقفنا المبدئية القرآنية تجاه قضايا الأمة، هذه أمور لا يمكن- كما قلنا- أن ندخلها في مزاد المساومة، غير ذلك لدينا مرونة، حريصون نحن على تحقيق السلام العادل المشرف، على وقف الأحداث، لكن موقفنا هو الدفاع، ولذلك إذا عادوا إلى التصعيد، فنحن جاهزون- بإذن الله “سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى”- على التصدي، والتحرك بما هو- إن شاء الله- أكبر من كل المراحل الماضية.
وأملنا في هذا الشعب من جديد أن يكون كذلك أكثر وعياً، أكثر بصيرةً، أكثر عزماً، أقوى إرادةً في مواصلة التصدي للأعداء؛ لأن ظلمهم لبلدنا هو ظلم كبير جداً، وظلم واضح، وصل الأمر إلى أن تصبح هذه الصورة السوداوية لهم فيما ارتكبوه من جرائم بحق هذا الشعب معروفة في كل العالم، الصيت والسمعة للسعودي والإماراتي في كل العالم هو صيت إجرامي، صيت وحشي، سمعة سيئة جداً، أنهم ارتكبوا في اليمن من الجرائم الشيء الرهيب المهول، الذي يندا له جبين الإنسانية، هذا شيء معروف، حتى في تلك البلدان التي تأمرهم، توجههم، تدفعهم إلى الاستمرار في العدوان، حتى في الوسط الأمريكي، وحتى في الوسط البريطاني والأوروبي، سمعة عملائهم أولئك هي على هذا النحو: أنهم مجرمون، متوحشون، يرتكبون أبشع الجرائم…إلخ.
فيما يعنينا في الوضع الداخلي، على كل حال فيما قد وصلنا إليه، وفيما قد تحقق، والذي تحقق هو الشيء الكبير، فيما قد مررنا به في المراحل الماضية من تحديات ومخاطر، إلَّا أن العنوان الأساس لوضعنا الداخلي: الحفاظ على تماسك الجبهة الداخلية، هذا أولاً، وتعزيز وتقوية هذا التماسك، والعمل بكل ما نستطيع فيما يتعلق بالجانب الرسمي على إصلاح وضعه، الذي نصفه بالمزري، الوضع السيء للجانب الرسمي نتيجة تأثيرات طويلة، قديمة، وماضية، وحاضرة.
في الواقع الداخلي، لا شك أن الأعداء يستهدفون الوضع الداخلي، ويستغلون أي مشكلة لذلك، هذا شيء بديهي، وشيء معروف، ومن الطبيعي أن يفعلوا كذلك، هم يرتكبون أبشع الجرائم، ويفترون الافتراءات، فما بالك إذا وجدوا أي مشكلة أن يحاولوا أن يستغلوها.
أول عنوان في الحفاظ على الوضع الداخلي، وفي تعزيز الجبهة الداخلية، وأول معني في هذا العنوان هو: الجانب الرسمي، الإخوة في الجانب الرسمي معنيون بأداء مسؤولياتهم، والارتقاء في أداء مسؤولياتهم في خدمة الشعب، ومعالجة الاختلالات، وتجاوز الأنانيات، والأهداف الشخصية، والمصالح الشخصية، هذا له أهمية كبيرة جداً حتى في تعزيز وتماسك الجبهة الداخلية، كلما كان الإخوة المسؤولون يؤدون مسؤولياتهم، ويبذلون الجهد في ذلك بشكلٍ صحيح، وهم على قُربٍ من الناس، واهتمامٍ بأمر الناس، ويبذلون كل جهدهم في ذلك، لهذا أهمية وتأثير إيجابي كبير في الوضع الداخلي، وفي تماسكه، في تماسك مختلف المجالات: تماسك مؤسسات الدولة، تماسك الوضع الاقتصادي، وغير ذلك، ويجب أن يحملوا النظرة الاستيعابية، الإخوة في موقع المسؤولية كافة، أن ينظروا إلى الشعب بشكلٍ عام، مسؤوليتهم تجاه أبناء هذا البلد بشكلٍ عام، تتجه اهتماماتهم نحو أبناء هذا البلد بشكلٍ عام، تجاه المجتمع اليمني بشكلٍ عام، هذه النظرة مهمةٌ جداً.
أيضاً فيما يعنينا في الواقع الداخلي: أن يكون هناك سعي لتقوية الروابط والعلاقة بين الجهات الرسمية والجهات الشعبية، هذا شيءٌ مهم، وأن تتظافر جهود الجميع، مؤسسات الدولة إذا عملت بمعزل عن الشعب ستبقى ضعيفة، وظروفها صعبة، وهي تواجه تحديات كبيرة، القرب من المجتمع، التعاون مع أبناء الشعب، التعاون من الجميع هو الذي يمكن أن يتحقق من خلاله نتائج مهمة، وأن نتغلب- بمعونة الله “سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى”، وبركة هذا التعاون- على التحديات مهما كانت، وأن تتفعَّل طاقات وجهود أبناء هذا الشعب، وهي كثيرة وكبيرة عندما تأتي حالة التعاون التي يبارك الله فيها الجهود والنتائج.
من الأشياء المهمة في الوضع الداخلي: الحذر من مساعي الفرقة، التي يشتغل عليها الأعداء تحت كل العناوين:
- العنوان العنصري: عنوان يشتغل عليه الأعداء ليلاً ونهاراً؛ لإثارة الفرقة بين أبناء هذا الشعب، الذي له هوية جامعة مقدسة، هي الهوية الإيمانية، وله أيضاً في واقعه الحياتي الواقع الوطني، نحن أبناء وطنٍ واحد، وأمة واحدة، دينها واحد، انتمائها واحد، مصيرها واحد، همها واحدٌ ومشترك، يجب أن نعزز حالة التعاون والأخوّة، وأن ننبذ كل مساعي الفرقة التي يشتغل عليها العدو.
- على المستوى الاجتماعي: والعدو لا يألو جهداً في أن يستغل أي مشكلة، حتى بين قبيلة وقبيلة أخرى، أي نزاع، نزاع على أرض، نزاع على حدود، نزاع على مشاكل معينة، قضايا معينة، يحاول أن يستغل ذلك في تأجيج نيران الفتن، ويسعى بالدفع بالجميع إلى سفك الدماء، إلى الغرق والانشغال في إطار مشاكل هنا ومشاكل هناك، هذا ما يجب أن يحذره الجميع.
- العناوين المذهبية: يحاول أن يتحرك لتأجيجها، يجب أن نسعى جميعاً لترسيخ الهوية الجامعة، والقواسم المشتركة، والروابط العظيمة التي تجمع بين أبناء هذا الشعب، وأن نعي بأساليب الأعداء، التي يعملون من خلالها على تفكيك الجبهة الداخلية؛ للحذر منها والانتباه تجاهها، هذا شيءٌ مهم.
في آخر الكلمة– والمعذرة على التطويل- نلفت النظر إلى الاستفادة من مدرسة الشهداء، هي مدرسة تعالج كل حالات الأنانية، والإحباط، واليأس، والعجز، وضيق الأفق، وضعف الهمة، وهي تحيي الروحية الإيمانية والجهادية، وتبعث العزم، وتحيي الأمل.
الوفاء للشهداء مسؤولية الجميع: مسؤولية أهاليهم، مسؤولية مجتمعهم، مسؤولية الجانب الشعبي والرسمي، مسؤولياتنا جميعاً، الوفاء لهم في الثبات على الموقف الحق، الوفاء لهم في التمسك بالأهداف العظيمة والمقدسة، الله “سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى” قال في القرآن الكريم: {مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُمْ مَنْ قَضَى نَحْبَهُ وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلًا}[الأحزاب: الآية23]، لنسعى لأن نكون في إطار قوله تعالى: {وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ}، وألَّا نُبَدِّل.
الشهداء قد فازوا، وتجاوزوا مسألة الاختبار والامتحان، وأمنوا من مسألة الانحراف والتغير، في الطريق الطويل البعض من الناس يتغير، يبدل، تتبدل روحيته، اهتماماته، توجهاته، حتى أهدافه، البعض من الناس تتحول اهتماماته، أهدافه مصلحية، أنانية، شخصية، تتحول إلى أطماع، تتحول إلى أحقاد، تتحول إلى أشياء أخرى، ليحرص الإنسان على أن يكون في إطار قوله تعالى: {وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ}، وألَّا يُبَدِّل، أن يبقى وفياً على الطريق، على الموقف الحق، على المبدأ، وفياً لتلك الأهداف العظيمة والمقدَّسة، ألَّا تصيبنا مسألة التضحيات- مهما كانت- بالوهن، بل يجب أن يكون أثرها فينا المزيد من العزم والقوة، وأن نسعى لأن نكون من أولئك الذين قال الله عنهم في القرآن الكريم: {وَكَأَيِّنْ مِنْ نَبِيٍّ قَاتَلَ مَعَهُ رِبِّيُّونَ كَثِيرٌ فَمَا وَهَنُوا لِمَا أَصَابَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَمَا ضَعُفُوا وَمَا اسْتَكَانُوا وَاللَّهُ يُحِبُّ الصَّابِرِينَ}[آل عمران: الآية146]، لنكن من الصابرين، فلا نصاب بالوهن مهما كانت التضحيات، ولا نصاب بالأسف والندم، حتى نتندم على أننا قدَّمنا تضحيات في سبيل الله تعالى، الله يقول في القرآن الكريم: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ كَفَرُوا وَقَالُوا لِإِخْوَانِهِمْ إِذَا ضَرَبُوا فِي الْأَرْضِ أَوْ كَانُوا غُزًّى لَوْ كَانُوا عِنْدَنَا مَا مَاتُوا وَمَا قُتِلُوا لِيَجْعَلَ اللَّهُ ذَلِكَ حَسْرَةً فِي قُلُوبِهِمْ وَاللَّهُ يُحْيِي وَيُمِيتُ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ}[آل عمران: الآية156]، لا يجوز أن تكون مسألة التضحيات حسرةً في قلب الإنسان، بل اعتزازاً وشعوراً بالرضى عن الله “سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى”، وتقديساً لهذا العطاء، واحتراماً لهذا العطاء، هو عطاءٌ في محله، يباركه الله، وأجره عظيم.
نشيد– في ختام الكلمة أيضاً- بإنشاء الهيئة العامة لرعاية أسر الشهداء، نأمل من كل الجهات الرسمية أن تتعاون معها، ويبقى أن يتعاون الجانب الرسمي والشعبي في العناية بأسر الشهداء في كل المجالات: الرعاية المادية، الرعاية التربوية، وهي جانبٌ مهم، الرعاية الاجتماعية، وهكذا الرعاية من كل الجوانب، هذا شيءٌ مهم، ويبقى التعاون بين الجانب الرسمي والشعبي مطلوباً، وفي داخل الجانب الرسمي كذلك مسألة مهمة جداً؛ لأن هذا هو من الوفاء للشهداء وتضحيات الشهداء.
في إطار هذه الذكرى السنوية- التي تستمر في العادة على مدى أسبوع- هناك الكثير من الأنشطة والبرامج المهمة، نأمل العناية بها، والاهتمام بها، والاستفادة منها.
نَسْأَلُ اللَّهَ “سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى” أَنْ يُوَفِّقَنَا وَإِيَّاكُم لِمَا يُرضِيهِ عَنَّا، وَأَنْ يَرْحَمَ شُهَدَاءَنَا الأَبرَار، وَأَنْ يَشْفِيَ جَرْحَانَا، وَأَنْ يُفَرِّجَ عَنْ أَسْرَانَا، وَأَنْ يَنصُرنَا بِنَصْرِه، إِنَّهُ سَمِيعُ الدُّعَاء.
وَالسَّـلَامُ عَلَـيْكُمْ وَرَحْـمَةُ اللَّهِ وَبَرَكَاتُه؛؛؛