اللّهم صَلِّ على مُحَمَّــدٍ وعلى آلِ مُحَمَّــد، وبارِكْ على مُحَمَّــدٍ وعلى آلِ مُحَمَّــد، كما صَلَّيْتَ وبارَكْتَ على إبراهيمَ وعلى آلِ إبراهيمَ إنك حميدٌ مجيدٌ، وارضَ اللهم برضاك عن أصحابه الأخيار المنتجبين، وعن سائر عبادك الصالحين.
نتحدث في محاضرة اليوم حول موضوعٍ مهم، من أهم المواضيع على الإطلاق، وهو موضوع الظلم، الظلم يعتبر من الجرائم الخطيرة جدًّا على الإنسان، ومن المعاصي والذنوب الكبيرة التي تحبط بها الأعمال، والتي عليها وعيدٌ شديدٌ من الله / في الدنيا والآخرة.
والحديث عن الظلم يشمل دائرةً واسعة، هذه الدائرة يدخل فيها: الظلم للنفس، الظلم في المعاملة، الظلم في المسؤولية ومن موقع المسؤولية، المظالم العامة والكبرى، ويدخل فيها أيضاً الظلم بالإضلال للناس والافتراء على الله /.
والحديث عن هذا الموضوع مهم، والانتباه لهذا الموضوع مهم، أولاً: للإنسان نفسه؛ لكييحذر من الظلم، لكي يحذر من التورط في هذه المعصية الكبيرة، وفي هذا الذنب العظيم، ولكي يتوب إلى الله وينيب، ويرجع إلى الله، ويتخلص من أي ظلمٍ أو مظلمة، ثم أيضاً مهمٌ لنا؛ لكي نعرف مسؤولياتنا وواجباتنا في التصدي للظلم، وفي العمل على إقامة العدل، وفي العمل على منع الظلم؛ لأن هناك مسؤوليات، إن لم نقم بها، نكون قد شاركنا فيما يقع من ظلمٍ والعياذ بالله.
عندما نتحدث عن هذا الموضوع، سيتسع الحديث ليدخل إلى بعضٍ من التفاصيل تحت تلك العناوين التي أشرنا إليها: الظلم للنفس، الظلم في المعاملة، الظلم في المسؤولية ومن موقع المسؤولية، المظالم الكبرى والعامة، ثم الظلم كذلك بالإضلال والافتراء على الله /، -وسنتحدث- عن ذلك بالتأكيد في أكثر من محاضرة.
الله تعالى لا يريد الظلم ولا يرضاه لعباده
اليوم نتحدث عن العناوين الرئيسية والمداخل الرئيسية لهذا الموضوع، وأول ما نتحدث عنه في ذلك هو أنَّ الله / وهو رب العالمين، وهو رب هذا الخلق بكله، وهو رب هذا الكون بأجمعه، وهو الخالق والفاطر -جلَّ شأنه- للسماوات والأرض، هو القائم بالقسط في خلقه، وفعله، وتدبيره، وتشريعه، وفي جزائه أيضاً، هو القائم بالقسط، الذي لا يريد الظلم، ولا يرضى بالظلم، ولا يقبل بالظلم، ويعاقب على الظلم، وهو / القائل في كتابه الكريم: {شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ}[آل عمران: من الآية 18]، الشهادة بوحدانيته، أنه الإله الواحد، { لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ وَالْمَلَائِكَةُ}[آل عمران: من الآية 18]، يعني: أيضاً شهدوا بأنه لا إله إلا الله وحده لا شريك له، {وَأُولُو الْعِلْمِ}[آل عمران: من الآية 18]، يعني: وهم كذلك شهدوا عن علمٍ وبصيرةٍ ويقين أنه لا إله إلا الله وحده لا شريك له، {وَأُولُو الْعِلْمِ قَائِمًا بِالْقِسْطِ}[آل عمران: من الآية 18]، فمع أنه الإله الواحد -جلَّ شأنه-؛ فهو أيضاً القائم بالقسط في خلقه، في تدبيره، في تشريعه، في الجزاء، هو القائم بالقسط في عباده، {قَائِمًا بِالْقِسْطِ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ}[آل عمران: من الآية 18].
هو أيضاً القائل -جلَّ شأنه- في كتابه الكريم عن جزائه: {ذَلِكَ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيكُمْ وَأَنَّ اللَّهَ لَيْسَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ}[آل عمران: الآية 182]، فهو -جلَّ شأنه- بريءٌ من الظلم، و{لَيْسَ بِظَلَّامٍ}: لا يمارس الظلم في فعله، ولا في تدبيره، ولا في تشريعه، هو -جلَّ شأنه- القائل أيضاً في جزاء الإنسان: {مَنْ عَمِلَ صَالِحًا فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ أَسَاءَ فَعَلَيْهَا وَمَا رَبُّكَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ}[فصلت: الآية 46]، هو -جلَّ شأنه- القائل: {إِنَّ اللَّهَ لَا يَظْلِمُ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ}[النساء: من الآية 40]، ولا حتى بهذا المقدار: ولا بمقدار مثقال ذرة، فهو في جزائه في عباده يوفيهم بالعدل وبالقسط، {وَإِنْ تَكُ حَسَنَةً يُضَاعِفْهَا وَيُؤْتِ مِنْ لَدُنْهُ أَجْرًا عَظِيمًا}[النساء: من الآية 40].
هو أيضاً لا يريد لعباده الظلم، ولا يريد لهمأن يُظْلَموا، ولا يريد منهم أن يَظلِموا بعضهم بعضاً؛ ولهذا هو -جلَّ شأنه- القائل: {وَمَا اللَّهُ يُرِيدُ ظُلْمًا لِلْعِبَادِ}[غافر: من الآية 31]، {وَمَا اللَّهُ يُرِيدُ ظُلْمًا لِلْعَالَمِينَ}[آل عمران: من الآية 108]، فهو لا يريده.
وبالتالي في هذا العالم وفي واقعنا نحن البشر، واقعنا الممتلئ بالظلم، الدنيا اليوم ملئت ظلماً وجوراً، وأكثر ما تعاني منه البشرية هو الظلم، وأصبح الظلم هو من أكبر المشاكل التي تعاني منها المجتمعات البشرية في شتى الأقطار وفي معظم البلدان، فعندما نعرف أنَّ الله / في تشريعه وفي تدبيره لا يريد الظلم، ولا يقبل بالظلم، نأتي إلى ما هناك من إجراءات من قبل الله / تجاه هذا الموضوع:
مما ورد في القرآن من الوعيد الشديد على الظلم
أولاً: نجد في القرآن الكريم الوعيد الشديد على الظلم، الله حرَّم الظلم، وتوعَّد عليه بالوعيد الشديد، وبالعقوبات الشديدة، وبالعذاب الشديد على مستوى الآخرة، وعلى مستوى الدنيا، نجد في الوعيد قول الله / في القرآن الكريم: {أَلَا لَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الظَّالِمِينَ}[هود: من الآية 18]، نعوذ بالله، نعوذ بالله! اللعنة من الله / هي الطرد من رحمته، الإنسان إذا طرد من رحمة الله /، معناه: أصبح إنساناً شريراً مخذولاً، لا يحظى من الله بأي رحمة، بأي توفيق، بأي هداية، ويستوجب عذاب الله /، ويكون تدبير الله له في هذه الدنيا فيما يدبره بشأنه، وما يعده له في الآخرة، هو ما فيه هلاكه، ما فيه شقاؤه، ما فيه عذابه.
لاحظوا على سبيل المثال: الشيطان، إبليس عندما لعنه الله /، عندما طرده من السماء ولعنه، قطع عنه رحمته، فلا يتوفق أبداً، لا يهتدي أبداً، لا يصلح أبداً، يتمادى في جرمه، في طغيانه، في فساده، في ضلاله، يزداد ضلالاً، يزداد شقاءً، يزداد خسراناً، يتحمل المزيد والمزيد من الأوزار.
فاللعنة من الله قضية خطيرةجدًّاعلى الإنسان، الإنسان إذا لُعِن من الله، معناه: طرد من ساحة الرحمة الإلهية، معناه: خرج من ألطاف الله وتوفيقه وهدايته إلى دائرة السخط الإلهي، والعقوبة الإلهية، وهذه حالة خطيرة جدًّا، يجب أن يحذر منها الإنسان جدًّا، فمن نتائج الظلم، الإنسان إذا ظلم، وأصر على ظلمه، وتمادى في ظلمه، لم يخرج مما هو فيه من مظلمة، وينيب إلى الله /، ويتخلص من المظالم، فالقضية خطيرة جدًّا، يدخل في إطار هذه اللعنة من الله / بكل ما يترتب عليها من نتائج رهيبة جدًّا في الدنيا، وعذاب عظيم في الآخرة.
الله -جلَّ شأنه- يقول في القرآن الكريم: {إِنَّا}: الله -جلَّ شأنه-، عظيم الشأن، بقدرته، بجبروته، بقوته، بعزته، بانتقامه، {إِنَّا أَعْتَدْنَا لِلظَّالِمِينَ نَارًا أَحَاطَ بِهِمْ سُرَادِقُهَا}[الكهف: من الآية 29]، السجن الأبدي الذي سينقل إليه كل الظالمين، ثم لا يخرجون منه أبداً، النار، نار جهنم والعياذ بالله، حيث سيسجنهم الله فيها للأبد، سجناً مؤبَّداً، ليس له نهاية، مليارات السنين قليلةٌ في الحساب، {أَحَاطَ بِهِمْ سُرَادِقُهَا}، لا يمكنهم أن يتخلصوا أبداً، قد أحيط بهم بالسرادق، سرادق: يشمل أشياء كثيرة في نار جهنم، يشمل أسوار جهنم، يشمل كذلك جدران قد تكون أو أماكن ضيقة في جهنم، توابيت في جهنم… أشياء كثيرة يدخلون إليها في جهنم، ثم لا يتخلصون منها والعياذ بالله، {أَحَاطَ بِهِمْ سُرَادِقُهَا}، يعني: لا خلاص لهم منها، لا فرار لهم منها، لا ملاذ لهم منها، لا مناص لهم، لا إمكانية للهروب منها أبداً.
يقول الله -جلَّ شأنه-: {إِنَّ الظَّالِمِينَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ}[إبراهيم: من الآية 22]، وعيدٌ قاطع وواضح وصريح بعذاب الله الأليم جدًّا، يقول الله -جلَّ شأنه- في القرآن الكريم عن يوم القيامة في ساحة الحساب: {يَوْمَ لَا يَنْفَعُ الظَّالِمِينَ مَعْذِرَتُهُمْ وَلَهُمُ اللَّعْنَةُ وَلَهُمْ سُوءُ الدَّارِ}[غافر: الآية 52]، لا تنفعهم التبريرات والأعذار والتلفيقات التي يحاولون أن يبرروا بها الظلم الذي ارتكبوه، لا ينفعهم ذلك أبداً، {وَلَهُمُ اللَّعْنَةُ}: فطردوا من رحمة الله نهائياً، ولا يحظون بذرةٍ من رحمة الله /، {وَلَهُمْ سُوءُ الدَّارِ}: وهو جهنم والعياذ بالله.
يقول الله -جلَّ شأنه-: {تَرَى الظَّالِمِينَ}[الشورى: من الآية 22]، يعني: في يوم القيامة وهم في وضعية رهيبة جدًّا، وقد جيء بجهنم، وسينتقلون إليها، {مُشْفِقِينَ مِمَّا كَسَبُوا}[الشورى: من الآية 22]، أدركوا عظيم وزرهم، وكبير جرمهم، وشناعة أعمالهم، فأصبحوا في حالة من الخوف والذعر الشديد، {مُشْفِقِينَ مِمَّا كَسَبُوا}؛ لأنهم أدركوا ما هي النتائج الحتمية التي سيذهبون إليها، {وَهُوَ وَاقِعٌ بِهِمْ}[الشورى: من الآية 22]، لا يستطيعون دفعه، ولا التخلص منه أبداً، من كان منهم يحتمي بالجيوش لا تنفعه جيوشه، من كان منهم يحتمي بالمال لا ينفعه ماله، من كان منهم يستند إلى سطوته وجبروته وقوته، تلاشى ذلك، من كان منهم في الدنيا يستند إلى ضعف من يظلمه، فهناك لا يمكنه أن يستند إلى ضعف ذلك؛ لأنه أصبح هو في دائرة الضعف والعجز والاستسلام التام.
يقول الله /: {وَلَا تَحْسَبَنَّ اللَّهَ غَافِلًا عَمَّا يَعْمَلُ الظَّالِمُونَ إِنَّمَا يُؤَخِّرُهُمْ لِيَوْمٍ تَشْخَصُ فِيهِ الْأَبْصَارُ}[إبراهيم: الآية 42]، قد يستغرب الإنسان ويتساءل أمام كثيرٍ من المظالم، عندما يرى الطغاة، عندما يرى الظالمين المستكبرين المجرمين وهم يرتكبون أبشع الجرائم، وأكبر المظالم، فيتعجب كيف لا يعاجلهم الله بعقوبة نهائية، وضربة قاضية! الله ليس غافلاً عن أعمالهم، وتصرفاتهم، وظلمهم، وجرائمهم، {إِنَّمَا يُؤَخِّرُهُمْ لِيَوْمٍ تَشْخَصُ فِيهِ الْأَبْصَارُ}، الله /يجعل جزءاً من العقوبات في الدنيا، لكنَّ الجزاء الكبير، والكبير الحقيقي، والجزاء الوافي هو في الآخرة، {يُؤَخِّرُهُمْ لِيَوْمٍ}، يعني: ليوم القيامة، ليومٍ عظيم، ليومٍ رهيب، {تَشْخَصُ فِيهِ الْأَبْصَارُ}، أولئك الذين كانوا في الدنيا يفتحون أعينهم، على حسب التعبير المحلي [يبهررون] على عباد الله بكل كبر وغطرسة، في ذلك اليوم أبصارهم شاخصة، وهم في حالة من الرعب الشديد، والخوف العظيم، {مُهْطِعِينَ مُقْنِعِي رُءُوسِهِمْ}[إبراهيم: من الآية 43]، فهم في حالة من الذل، قد مدوا أعناقهم، ورفعوا رؤوسهم، أعناقهم منحنية، ورؤوسهم مرتفعة هكذا في حالة من الذل والرهبة الشديدة جدًّا، {لَا يَرْتَدُّ إِلَيْهِمْ طَرْفُهُمْ}[إبراهيم: من الآية43]، من شدة الخوف والرعب، طرف العين لا يرتد، لا يتحرك، لا يرجع، في حالة منبهرين، وخائفين، ومفجوعين، ومرعوبين، وفي حالة من الإذلال الشديد جدًّا، انتقاماً منهم كما ظلموا وطغوا وتكبروا في هذه الدنيا، {وَأَفْئِدَتُهُمْ هَوَاءٌ}[إبراهيم: من الآية 43]، أفئدتهم: واقعهم الداخلي في نفوسهم، في قلوبهم فراغ، ليس عندهم ذرة من الروح المعنوية، ولا من الاطمئنان أبداً، خوف شديد جدًّا هم فيه.
وتبين لكم كيف فعلنا بهم.. درس مهم!
{وَأَنْذِرِ النَّاسَ يَوْمَ يَأْتِيهِمُ الْعَذَابُ فَيَقُولُ الَّذِينَ ظَلَمُوا رَبَّنَا أَخِّرْنَا إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ نُجِبْ دَعْوَتَكَ وَنَتَّبِعِ الرُّسُلَ أَوَلَمْ تَكُونُوا أَقْسَمْتُمْ مِنْ قَبْلُ مَا لَكُمْ مِنْ زَوَالٍ}[إبراهيم: الآية 44]، الكثير من الظالمين يصل بهم الطغيان والكبر إلى أن يطمئنوا اطمئناناً تاماً في هذه الحياة، وكأنه لا حساب، ولا عقاب، ولا جزاء، وكأنهم سيفعلون كل ما يفعلون من دون أن يدفعوا ثمن ذلك، من دون أن يعاقبوا على ذلك، {وَسَكَنْتُمْ فِي مَسَاكِنِ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ وَتَبَيَّنَ لَكُمْ كَيْفَ فَعَلْنَا بِهِمْ وَضَرَبْنَا لَكُمُ الْأَمْثَالَ}[إبراهيم: الآية 45]، في الدنيا هناك الكثير من العبر عمَّن ظلموا، عمَّن طغوا، وعمَّن تكبروا، وكيف عاقبهم الله في هذه الدنيا؛ ثمانتهت سطوتهم، انتهت حياتهم، انتهت إمكاناتهم، تلاشت قوتهم، فلماذا لا تؤخذ العبرة من ذلك: ممن يطغى، ممن يظلم، ممن يتكبر؟
يقول الله / عن يقوم القيامة أيضاً: {وَلَوْ أَنَّ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا وَمِثْلَهُ مَعَهُ لَافْتَدَوْا بِهِ مِنْ سُوءِ الْعَذَابِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ}[الزمر: الآية 47]، هذا يبين على مستوى الخوف الشديد جدًّا، وعلى سوء الحساب، وشدة العذاب الرهيب جدًّا، لدرجة أنه لو كان للظالم ما في الأرض، ونحن عندما نتخيل- على سبيل التخيل حتى- كم في الأرض من إمكانات… من أشياء يطمع فيها الناس، كل ما في الأرض من ممتلكات، كل ما في الأرض من أموال، كل ما في الأرض من مُدَّخرات ونفائس وأشياء غالية لدى الإنسان، مهمة لدى الإنسان، ليس هذا فحسب، بل {وَمِثْلَهُ مَعَهُ}: ويكون أيضاً مثله معه يضاف إليه، {لَافْتَدَوْا بِهِ}: لقدموه فديةً لو أمكن أن يفتدوا به {مِنْ سُوءِ الْعَذَابِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ}؛ لأنه عذابٌ شديد جدًّا، عذاب رهيب جدًّا، وللأسف الكثير من الناس قد يظلم من أجل شيء تافه، شيء تافه، أنت في يوم القيامة لو أمكنك أن تفتدي بكل ما في الأرض جميعاً، وبمثله معه، لافتديت به؛فكيف تَظْلِم من أجل شيءٍ تافه تحصل عليه من هذه الدنيا؟! وأكثر المظالم، نسبة كبيرةجدًّا من المظالم تكون- وهي وراء سعي الإنسان- تكون نتاجاً لسعي الإنسان للحصول على شيء من هذه الدنيا، الذي يذهب في صف الطغاة والظالمين والمجرمين، يقاتل معهم ويناصرهم؛ من أجل أن يحصل على شيء معين، كم انطلق في صف العدوان، كم التحق بالسعودي والإماراتي من أجل الحصول على قليلٍ تافهٍ من المال؟ ثم كم حصل من ظلم نتيجة ذلك؟
كثيرٌ من الناس من موقعه في المسؤولية قد يظلم؛منأجل أن يحصل على شيءٍ من الدنيا، كثيرٌ من الناس في معاملاته قد يظلم؛ من أجل أن يحصل على شيءٍ من الدنيا، قد يظلم البعض حتى قريبه؛ من أجل أن يحصل على شيءٍ من هذه الدنيا.
يوم القيامة لو كان للإنسان ما في الأرض بكله ومثله معه لافتدى به، {وَبَدَا لَهُمْ مِنَ اللَّهِ مَا لَمْ يَكُونُوا يَحْتَسِبُونَ} [الزمر : 47]، ظهر لهم من عذاب الله وبأسه وجبروته ما لم يكونوا يتوقعونه، ما لم يكن في حساباتهم، ولا في تقديراتهم، أمور رهيبة جدًّا.
فهذا الوعيد في الآخرة: جهنم، العذاب الشديد، العذاب الدائم، أمر رهيب جدًّا، هذه الحسرة، هذا الذل، هذا الندم، هذا الخوف للظالمين في يوم القيامة، الاحتراق الدائم في نار جهنم، الإذلال الدائم في النار والعياذ بالله! السجن في جهنم والعياذ بالله! أمر رهيبجدًّا يستدعي من الإنسان أن يكون حذراً؛ حتى لا يكون ظالماً، ولا يكون مساهماً في ظلم عباد الله.
العبرة بما حصل للأمم والقرى نتيجة ظلمهم
الله / أيضاً ذكر لنا في القرآن الكريم كيف أهلك الكثير من الأمم والقرى نتيجةً لظلمهم، ذكر لنا في القرآن الكريم عن قوم نوح، عن ثمود، عن عاد قبل ثمود… عن أقوام متعددة، وكيف أهلكهم، تحدث لنا في القرآن الكريم عن قرى، عن أمم- على وجه الإجمال- كيف هلكت، قال عن قوم نوح: {فَأَخَذَهُمُ الطُّوفَانُ وَهُمْ ظَالِمُونَ}[العنكبوت: من الآية 14]، قال عن فرعون وقوم فرعون: {وَأَغْرَقْنَا آلَ فِرْعَوْنَ وَكُلٌّ كَانُوا ظَالِمِينَ}[الأنفال: من الآية 54]، قال -جلَّ شأنه-: {وَكَمْ قَصَمْنَا مِنْ قَرْيَةٍ كَانَتْ ظَالِمَةً}[الأنبياء: من الآية 11]، عبارة: (وَكَمْ)يفيد التكثير، يعني: كثيراً من القرى حصل لها ذلك، أهلكها الله /، وعاجلها بالعقوبة في الدنيا بأنواعٍ من العقوبات المدمرة، عقوبات رهيبة جدًّا.
{وَكَمْ قَصَمْنَا مِنْ قَرْيَةٍ}، فيما تفيده مفردة (قَصَمْنَا) من ضربة قاضية وعذاب مهلك ومدمر، {كَانَتْ ظَالِمَةً وَأَنْشَأْنَا بَعْدَهَا قَوْمًا آخَرِينَ (11) فَلَمَّا أَحَسُّوا بَأْسَنَا إِذَا هُمْ مِنْهَا يَرْكُضُونَ (12) لَا تَرْكُضُوا وَارْجِعُوا إِلَى مَا أُتْرِفْتُمْ فِيهِ وَمَسَاكِنِكُمْ}[الأنبياء: 11-13]، عودوا إلى حياتكم السابقة، عودوا إلى ما كنتم فيه من الترف، عودوا إلى ما كنتم عليه من الانشغال بمتعة هذه الحياة، مع ما كنتم عليه من ظلم، {لَعَلَّكُمْ تُسْأَلُونَ (13) قَالُوا يَا وَيْلَنَا إِنَّا كُنَّا ظَالِمِينَ (14) فَمَا زَالَتْ تِلْكَ دَعْوَاهُمْ حَتَّى جَعَلْنَاهُمْ حَصِيدًا خَامِدِينَ}[الأنبياء: 13-15]، لم ينفعهم، أحسوا، شعروا، {قَالُوا يَا وَيْلَنَا إِنَّا كُنَّا ظَالِمِينَ}، لكن هذا لم يفدهم أبداً، بل استمر الهلاك والعذاب حتى انتهوا، {حَتَّى جَعَلْنَاهُمْ حَصِيدًا خَامِدِينَ}.
لماذا يذكر الله / هذا لنا؟ ليذكرنا بأن هذا يمكن أن يحصل، ليس هذا فقط للماضين من البشر؛ وإنما أيضاً لمن بعدهم، تحصل أن تنزل عقوبات إلهية، عقوبات من الله، عقوبات جماعية أحياناً، إذا أصبح الواقع في مجتمعٍ معين واقعاً منحرفاً، واقعاً فاسداً، واقعاً يسوده الظلم والانحراف؛ يمكن أن تأتيه- بل لا شك- أن تأتيه العقوبات الإلهية في الدنيا.
يقول الله -جلَّ شأنه-: {فَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَاهَا وَهِيَ ظَالِمَةٌ فَهِيَ خَاوِيَةٌ عَلَى عُرُوشِهَا وَبِئْرٍ مُعَطَّلَةٍ وَقَصْرٍ مَشِيدٍ}[الحج: الآية 45]، تجد كثيراً من القرى التي قد انتهت الحياة فيها، بقيت آثارها، بقيت فيها الأطلال، بقيت خاويةً على عروشها، البئر معطلة، قصر مشيد، ولكن ليس فيه من سكان، آثار فقط، أين هم؟ انتهوا، هلكوا، رحلوا، عوقبوا، فهذا على مستوى الوعيد والتحذير، التحذير لبقية المجتمعات البشرية.
يأتي أيضاً ضمن الوعيد الإلهي الوعيد على الظلم في القضايا التفصيلية: جرائم معينة، مظالم معينة، مثلاً: القتل ظلماً عليه وعيدٌ في القرآن الكريم بالنار. أخذ مال الحرام، ونهب حق الناس بغير حق، عليه وعيدٌ بالنار. جرائم كثيرة عليها وعيدٌ بالنار في القرآن الكريم، سنأتي- إن شاء الله- إلى الحديث عن ذلك على نحوٍ أكثر تفصيلاً.
في القرآن الكريم وفي دين الله / بشكلٍ عام، حتى مع الأنبياء السابقين، شرع الله عقوبات، عقوبات على الظلم، عقوبات في الدنيا، عقوبات تنفذ ضد الظالمين، عقوبات مثلاً على القتل ظلماً، على السرقة، على النهب، على الربا… أشياء كثيرة عليها عقوبات تنفذ.
من أهم مسؤوليات المؤمنين: دفع الظلم وإقامة العدل
أيضاً في التشريعات والتعليمات الإلهية ما يشرّع لنا، وما يقدم ضمن أهم مسؤولياتنا: العمل على منع الظلم، والعمل على إقامة العدل، وإقامة العدل هي من المسؤوليات المهمة في الدين الإلهي، من أهم المسؤوليات أن يعمل المؤمنون على إقامة العدل، وأن يعملوا على منع الظلم، وأن يحاربوا الطغاة والظالمين، وأن يعملوا على منع ظلمهم، والتصدي لظلمهم، وتشريعات من الله / تساعد عباده على بناء واقعهم وإصلاحه؛ حتى يكون واقعاً منيعاً، عصياً على الظلم والظالمين، واقعاً تنطلق فيه الأمة في القيام بمسؤولياتها لدفع الظلم، ولكن من واقع القوة، تشريعات وتعليمات تبني الأمة لتكون أمةً قوية، تقدر على دفع الظلم، فاعلة في التصدي للظلم، ومقتدرة- مع التأييد الإلهي- على معاقبة الظالمين والطغاة، والتخلص من ظلمهم، ومنع ظلمهم؛ ولهذا يقول الله / في القرآن الكريم: {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ}[النحل: الآية 90].
يقول /: {وَإِذَا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النَّاسِ أَنْ تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ}[النساء: من الآية 58]، يقول الله /:{وَإِذَا قُلْتُمْ فَاعْدِلُوا}[الأنعام: من الآية 152]، حتى في القول، في الكلام، {وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَى}.
يقول الله / في القرآن الكريم: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ}، وهذه الآية القرآنية العظيمة هي تأمر بهذا الأمر الإلهي المهم: تأمر المؤمنين أن يكونوا (قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ)، بما تفيده مفردة (قَوَّامِينَ) من عملٍ مستمر، وسعيٍ مستمر، وبرنامج متكامل لإقامة القسط في الحياة، {شُهَدَاءَ لِلَّهِ وَلَوْ عَلَى أَنْفُسِكُمْ}، يكون الإنسان مستعداً أن ينصف من نفسه، حريصاً على أن ينصف من نفسه، {أَوِ الْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ}، لا تحاب قريبك، لا تساعده على الظلم، اسع لإقامة العدل حتى ولو كان على نفسك أو أبيك أو قريبك، {إِنْ يَكُنْ غَنِيًّا أَوْ فَقِيرًا فَاللَّهُ أَوْلَى بِهِمَا}، فلا الغني يجامَل لغناه، ولا الفقير يجامل لفقره، العدل على الجميع، {فَلَا تَتَّبِعُوا الْهَوَى أَنْ تَعْدِلُوا وَإِنْ تَلْوُوا أَوْ تُعْرِضُوا فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا}[النساء: الآية 135].
فنجد على نحوٍ عام تركيزاً كبيراً على مسألة العدل، والسعي لإقامة العدل، والحذر من الظلم، والنظرة إلى الظلم كجرم خطير جدًّا يحذر الإنسان من ممارسته، ويسعى ضمن عباد الله المؤمنين كمسؤولية جماعية، يتعاون فيها المؤمنون لإقامة القسط، ومنع الظلم، والتصدي للظلم.
هذا على نحوٍ عام نفتتح به- إن شاء الله- المحاضرات القادمة في هذا الموضوع، لندخل- إن شاء الله- إلى بقية المواضيع، إلى ما تشمله هذه الدائرة على نحوٍ تفصيليٍ، وعلى ضوء بعضٍ من الآيات القرآنية المباركة.
نكتفي بهذا المقدار…
ونسأل الله / أن يوفِّقنا وإيَّاكم لنكون من عباده القائمين بالقسط، وأن يرحم شهداءنا الأبرار، وأن يشفي جرحانا، وأن يفرِّج عن أسرانا، وأن ينصرنا بنصره، إنه سميع الدعاء.