أَعُـوْذُ بِاللَّهِ مِنْ الشَّيْطَان الرَّجِيْمِ
بِـسْـــمِ اللَّهِ الرَّحْـمَـنِ الرَّحِـيْـمِ
الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ، وَأَشهَدُ أَنَّ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ الْمَلِكُ الْحَقُّ المُبين، وَأشهَدُ أنَّ سَيِّدَنا مُحَمَّداً عَبدُهُ ورَسُوْلُهُ خَاتَمُ النَّبِيِّين.
اللَّهُمَّ صَلِّ عَلى مُحَمَّدٍ وَعَلَى آلِ مُحَمَّد، وَبارِكْ عَلى مُحَمَّدٍ وَعَلَى آلِ مُحَمَّد، كَمَا صَلَّيْتَ وَبَارَكْتَ عَلَى إِبْرَاهِيمَ وَعَلَى آلِ إِبْرَاهِيمَ إِنَّكَ حَمِيدٌ مَجِيدٌ، وَارضَ اللَّهُمَّ بِرِضَاكَ عَنْ أَصْحَابِهِ الْأَخْيَارِ المُنتَجَبِين، وَعَنْ سَائِرِ عِبَادِكَ الصَّالِحِينَ وَالمُجَاهِدِين.
الَّلهُمَّ اهْدِنَا، وَتَقَبَّل مِنَّا، إنَّكَ أنتَ السَّمِيعُ العَلِيم، وَتُبْ عَليَنَا، إنَّكَ أنتَ التَّوَّابُ الرَّحِيمْ.
أيُّهَا الإِخْوَةُ وَالأَخَوَات:
السَّـلَامُ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَةُ اللَّهِ وَبَرَكَاتُهُ؛؛؛
بانقضاء ثلثي الشهر الكريم، تدخل العشر الأواخر المتبقية من شهر رمضان المبارك، وشهر رمضان بكله من أوله إلى آخره شهرٌ مبارك، عظيم البركات، الأعمال فيه مباركة، تأتي فيه الفرصة لاستجابة الدعاء بأكثر من أي زمنٍ آخر، وله آثاره التربوية في تزكية النفس، وترسيخ حالة التقوى لدى الإنسان، وكذلك أثره الكبير في الارتقاء في العلاقة الإيمانية بالله “سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى”، وتوثيق الروابط والعلاقة مع القرآن الكريم، والاستفادة من هدى الله “سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى” بأكثر من أي وقتٍ آخر، فهو شهرٌ بكله مبارك، كل ليلةٍ منه، وكل يوم، كل ساعة تعتبر مهمةً جداً ومباركةً، والمسألة تبقى بالنسبة للإنسان في مدى اهتمامه هو، وإقباله، وسعيه للاستفادة من هذه الفرصة العظيمة.
وعندما تأتي العشر الأواخر من شهر رمضان المبارك، فلها أهميتها أكثر؛ باعتبار أنها تُلتمس فيها ليلة القدر بأكثر مما سبقها من شهر رمضان المبارك؛ ولذلك من المعروف عن رسول الله “صَلَوَاتُ اللَّهِ عَلَـيْهِ وَعَلَى آلِه”- فيما روي عنه- أنه كان يهتم أكثر بالعشر الأواخر، فهو يهتم بشهر رمضان من أوله إلى آخره، ولكن عندما تأتي العشر الأواخر يزيد اهتمامه، وإقباله على العبادة، على الدعاء، على الذكر، إقباله فيها بشكلٍ أكبر مما سبقها من شهر رمضان المبارك، ويحث على ذلك، يحث المسلمين، يحث أصحابه، يحث أسرته كذلك، فكان هذا شيئاً بارزاً وواضحاً.
ولذلك من المهم جداً بالنسبة لنا، وعلى أمل أن نكون- بتوفيق الله “سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى”، بفضله، برحمته- قد استفدنا مما قد مضى من شهر رمضان المبارك، من صيامه، من قيامه، من صالح الأعمال فيه، من تلاوة القرآن الكريم، من تأمل هدى الله “سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى”، من الأثر التربوي لهذا الشهر المبارك بما فيه من الأعمال، وبما فيه من البركات، وبما يَمُنُّ الله به “سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى” علينا من هدايته وتوفيقه، فيكون الإنسان قد تهيأ نفسياً، تربوياً، ذهنياً، عملياً، على مستوى زكاء نفسه، على مستوى شعوره بالقرب من الله أكثر، لأن يستفيد من العشر الأواخر، وبعيداً عن أي حالة ملل.
لأن البعض من الناس ممن اهتماماتهم أخرى، خارج إطار الأولويات والقضايا المهمة، والأمور التي ينبغي أن يركِّزوا عليها، ذهنيتهم منصرفة نحو الأمور التي يتلهون بها، أو ممن يعطي كل اهتمامه بظروف معيشته وحياته، ولا يفكر في أي شيءٍ آخر، هناك من الناس من يغرق كلياً، بكل ذهنه، بكل تفكيره، بكل اهتمامه، بكل نفسيته، في أموره المعيشية؛ فلا يفكر في أي شيءٍ آخر.
وهناك من الناس من يتلهى بالأمور الأخرى، ويستغرق جزءاً من وقته: إمَّا في إطار مقايل القات، والكلام الذي ليس له أي أهمية فيها، بل قد يتحمل الإنسان منه أوزاراً أخرى، في السمرات والسهرات، أو مع رفقاء السوء وأخلاء السوء والعياذ بالله.
أو يكون الإنسان ممن يستهتر بنفسه، وحياته، ووقته، وبهذه الفرص العظيمة؛ فيستغرق أوقاته إمَّا على مواقع التواصل الاجتماعي، أو متابعة القنوات الفضائية في كل وقته، أو وراء الألعاب الإلكترونية، التي أصبحت هي من الآفات والمشاكل في الإدمان عليها من كثيرٍ من الشباب.
فهذه حالات خطرة جداً، وحالات سيئة على الإنسان، وهي من الأسباب التي تجعل الإنسان يملّ ويفتر، ويقل عزمه، ويقل اهتمامه، فيما يتعلق بالأمور المهمة والعظيمة والمباركة، من مثل: إحياء ليالي شهر رمضان المبارك بتلاوة القرآن، بالذكر لله، بالأدعية، بالصلوات، أو إحياء جزءٍ منها لمن عليه ضغوط في ظروف حياته.
فالذي عنده شواغل كبيرة في ظروفه المعيشية، يستطيع أن يخصص جزءاً من وقته؛ لأنه بحاجة، بحاجة حتى لصلاح معيشته، للبركة في رزقه، للخير في حياته، ولمستقبله في الآخرة، أن يخصص جزءاً من وقته للاهتمام بذكر الله “سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى”، الاهتمام بتلاوة القرآن، أو سماع تلاوة القرآن الكريم، للدعاء؛ فلا يستغرق كل وقته، وكل اهتمامه، وكل تفكيره، وكل انشغاله النفسي، وكل توجهه فقط نحو الاهتمام بالأمور المعيشية فحسب، لا يحتاج الإنسان لذلك أصلاً، لا ظروف حياته تطلب ذلك؛ لأنه يمكنه أن يهتم بهذا وذاك، وأن يكون إلى جانب اهتمامه بأمور معيشته، وأعماله، وشواغله المرتبطة بذلك، أن يكون إلى جانب ذلك اهتمام بذكر الله “سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى”، حتى في بعض الأعمال يمكن للإنسان في أثنائها أن يكون مهتماً بذكر الله “سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى”، والتَّذكر لله، وكذلك تخصيص أوقات معينة؛ أمَّا الأشياء العبثية فبالأولى أن يحذرها الإنسان، وألَّا تكون على حساب فرص عظيمة كهذه الفرص.
فالعشر الأواخر التي تستحق منا– ولمصلحتنا نحن، ولحاجتنا نحن- المزيد من الاهتمام، المزيد من الإقبال على الله “سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى”، على الذكر، على العبادة، على الأعمال الصالحة المتنوعة، الأعمال الصالحة واسعة جداً، ويستطيع الإنسان أن يستفيد من هذه العشر في لياليها المباركة بتنويع البرامج.
ومما يساعد الإنسان على ذلك: على أن يتَّجه لإحياء هذه الليالي المباركة، وأن يسعى لالتماس ليلة القدر فيها هو: التذكر والتأمل في أهميتها، وما يتعلق بها، بما أن ليلة القدر هي ضمن العشر الأواخر في الأشهر، يعني: متوقعةٌ فيها بأكثر مما قبلها، فَلنُذَكِّر أنفسنا بأهمية هذه الليلة، ولنتأمل في ذلك، ولنعد إلى آيات الله “سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى”، التي تبيِّن لنا هذه الأهمية، هذا سيساعدنا على الاهتمام أكثر، وعلى الإقبال أكثر.
البرنامج التصاعدي، الذي يفترض أن يتجه الإنسان عليه، يعني: اهتمام من بداية شهر رمضان، وانتفاع بهذا الاهتمام، انتفاع من التلاوة، من الصيام، من العمل الصالح بأنواعه؛ فالأثر من جهة، والبرنامج التصاعدي من جهة، يهيئ الإنسان إلى أن تأتي تلك الليلة ويتوفق لها، يعني: من أسباب التوفيق لتلك الليلة هو: ذلك الاهتمام المستمر، والسعي المستمر، وعندما يعلم الله منك حرصك ورغبتك، وأنت ترجوه، وأنت تدعوه، وتريد أن تستفيد من تلك الليلة المباركة؛ فالإنسان قد يتوفق، يتوفق لليلة القدر، وأن يحظى في هذه الليلة المباركة (في ليلة القدر يعني) يحظى فيها بالبركات العظيمة.
ليلة القدر هي ليلةٌ مباركة، عظيمة الشأن، هي ليلة نزول القرآن الكريم، كتاب البركات والخيرات، كتاب الهدى والنور، الذي يرتبط به مصير البشرية في دنياها وآخرتها، وهذا مما يبين لنا أهمية تلك الليلة المباركة: أنها ليلة نزول القرآن الكريم، بكل ما فيه من البركات، بكل ما فيه من الخيرات، بكل ما يترتب عليه من النتائج المهمة للإنسان، وللمجتمع البشري بشكلٍ عام، والله “سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى” أكَّد على هذه الحقيقة بقوله: {شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ}[البقرة: من الآية185]، ثم بقوله: {إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ}[القدر: الآية1]، وبقوله: {إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةٍ مُبَارَكَةٍ إِنَّا كُنَّا مُنْذِرِينَ}[الدخان : الآية3].
فالعنوان الأول لهذه الليلة– يعني: لتلك الليلة، لا ندري متى هي من ليالي العشر هي متوقعة، في أي ليلة من ليالي العشر، وفي بعض الليالي فيها أكثر توقعاً، والمطلوب هو الاهتمام بكلها كما كان يفعل رسول الله “صَلَوَاتُ اللَّهِ عَلَـيْهِ وَعَلَى آلِه”، ويحث على ذلك، وَيُرَغِّب في ذلك- العنوان هو: البركة، {إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةٍ مُبَارَكَةٍ}.
بركات ليلة القدر هي بركاتٌ واسعة، وبركات عظيمة ومهمة، فضمن هذه البركات:
- نزول بركاتٍ من السماء إلى الأرض، ونزول خيرٍ واسع، فيما ينزل فيها من الخير والبركات.
- من بركاتها: أنها ليلة سلامٍ وأمانٍ من عذاب الله:
لا ينزل فيها العذاب من أولها إلى آخرها، {حَتَّى مَطْلَعِ الْفَجْرِ}[القدر: من الآية5]، كما في (سورة القدر المباركة)، وهذه ميزة لها: أنها ليلة سلام، وليلة أمان، لا ينزل فيها شيءٌ من عذاب الله “سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى”.
- من بركاتها المهمة جداً لنا هي: تضاعف الأعمال فيها إلى عشرات آلاف الأضعاف:
الأجر فيها على العمل يضاعف، ولكن ليس فقط إلى مستوى معين، مثلاً: الأعمال الصالحة ضاعفها الله من البداية الحسنة بعشرة أمثالها، ثم في مقامات، وظروف، وأعمال، ومناسبات؛ تُضاعف إلى أرقام معينة، مثلاً: في الصلاة، في صلاة الجماعة إلى خمسٍ وعشرين ضعفاً، مثلاً: في شهر رمضان المبارك من أوله تبدأ المضاعف إلى سبعين ضعفاً، لكن في ليلة القدر المضاعفة هي عشرات آلاف، عشرات الآلاف من المضاعفة، يعني: آلاف، وعشرات الآلاف، وعشرات الآلاف، وعشرات الآلاف… وهكذا، مضاعفة بشكلٍ كبيرٍ جداً.
وتعادل في قيمة العمل فيها والإحياء لها أكثر من ثمانين عاماً، وأكثر الناس لا يتعمَّر إلى ثمانين عاماً، الكثير من الناس، القليل من الناس- خاصةً في العصور المتأخرة، وهذه القرون المتأخرة، وآخر الزمان- القليل من الناس من يتعمَّر إلى ثمانين عاماً، فهي تعادل في إحيائها وقيمة الأعمال فيها أكثر من ثمانين عاماً، وهذه فرصةٌ عظيمةٌ جداً.
ومن رحمة الله “سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى” أن يتيح للإنسان فرصةً كهذه، إحياؤها بالأعمال الصالحة، تكون نتيجته هذه النتيجة: وكأن الإنسان بقي في العمل ثمانين عاماً، لعُمرٍ كامل، وعُمرٍ لا بأس به، عُمرٍ طويل قياساً بأعمار الناس في هذا العصر.
- من بركات ليلة القدر: نزول الملائكة إلى الأرض، في إطار التدبير الإلهي الواسع، ودعاؤهم وسلامهم للمتقين المحيين لها:
يعني: في الآثار والروايات أنهم عندما يمرُّون في نزولهم بمن يحيي ليلة القدر، ممن أعمالهم مقبولة، يُسَلِّمون عليه، ويدعون له، وهذه نعمةٌ كبيرة، وشرفٌ كبير، ولها أثرٌ عظيم لأن يمرّ بك ملائكة الله، وأن يسلِّموا عليك، وأن يدعوا لك، لهذا أثره وبركته، أثره على المستوى النفسي، على المستوى المعنوي، على مستوى حالة الإنسان، وما يترتب على ذلك، كذلك في دعائهم؛ فهي ليلة مهمة، ومباركة، وعظيمة.
أيضاً مما يتعلق بليلة القدر، وهو أساسيٌ فيها هو: أنها ليلة تقدير أمور الناس لعامهم الآتي، لعامهم الآتي:
تقدير أمورهم فيما يتعلق بأرزاقهم، وأجالهم، وأحوالهم، فيما يكتبه الله لهم أو عليهم، تأتي كثيرٌ من التفاصيل المتعلقة بحياة الإنسان ضمن ذلك.
فالليلة التي تعنيك أنت كإنسان، في تدبير أمورك في عامك القادم، وتتعلق بجوانب ذات أهمية لك أنت، لك أنت: في رزقك، في أجلك، في تفاصيل كثيرة مما يُكتَب لك أو عليك، أليس من المهم أن تكون في تلك الليلة في حالة تَقَرُّب إلى الله، إقبال إلى الله، دعاء وتضرُّع؛ ليكتب الله لك الخير في عامك القادم، في عامك الذي يبدأ من بعد تلك الليلة؟
نحن بحاجة إلى الله “سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى”، نحن الفقراء إلى الله “جَلَّ شَأنُهُ”، بحاجة إلى رحمته، إلى فضله، إلى عفوه، إلى مغفرته، وعونه، وهدايته، وتوفيقه؛ فيما نواجهه في هذه الحياة من مشاكل، من تحديات، من أخطار، من معاناة، من صعوبات، نحتاج إلى الله “سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى” تجاه كل ذلك، ولما يكتبه الله الأهمية الكبيرة في واقع حياتنا، في ظروف حياتنا، في طبيعة المشاكل التي نواجهها في هذه الحياة.
فأن تكون مقبلاً في ليلة فيها تدبير عامك، فيها تقدير الأمور المتعلِّقة بك أنت، فهذه مسألة مهمة جداً، والإنسان إذا كان في ليلة كهذه مقبلاً على الله، يدعو الله، يرجو الله، متضرِّعاً، يعمل الأعمال الصالحة، هذه مسألة مهمة، مُتَّجهاً- وهذه نقطة في غاية الأهمية– للاستقامة على منهج الله “سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى”، والطاعة لله، لهذا أهمية كبيرة؛ لأن– بالنسبة للإنسان- لأن فيما هو عليه من توجه، من اهتمام، من عمل، أهمية كبيرة فيما يُكتب له أو عليه؛ فلذلك هذه المسألة من أهم الأمور.
وباختصار تعتبر ليلة القدر ليلةً يمكن أن يتغيَّر فيها مستقبل الإنسان تماماً، قد يكون مستقبل الإنسان خطيراً؛ نتيجةً لمعاصيه، لاستهتاره، لتفريطه، لتقصيره، قد يكون- والعياذ بالله- إلى النار، ولكن في إقباله إلى الله، في توجهه الصادق، في عزمه على أن يسعى للاستقامة على منهج الله، في إقباله ودعائه وتضرُّعه، قد يكتب الله “سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى” له في مستقبله الفوز، والنجاة، والفلاح، والعتق من عذاب الله، والعتق من النار.
في الليلة نفسها، في ليلة القدر يمكن أن تكون أيضاً ليلةً مهمةً، يتحقق للإنسان فيها نقلة كبيرة على مستوى واقعه العملي، وفي التَّقَرُّب إلى الله “سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى”، وفي الارتقاء في علاقته بالله “سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى”؛ فهي ليلة مناسبة جداً لتحقيق نقلات في حياة الإنسان:
- نقلات في مستوى العمل، يرتفع رصيد الإنسان فيها، بما يعادل ثمانين عاماً من العمل الصالح، نقلة مهمة هذه، ونقلة كبيرة، فالإنسان بحاجة.
- أيضاً نقلة فيما يكتبه الله له في مستقبل حياته.
- نقلة في واقعه النفسي.
- نقلة في منزلته الإيمانية عند الله.
هي فرصة لتحقيق نقلة كبيرة في حياة الإنسان؛ ولهذا يقول الله “سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى” في (سورة القدر) مبيِّناً أهميتها: {بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ * إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ (1) وَمَا أَدْرَاكَ مَا لَيْلَةُ الْقَدْرِ}[القدر: 1-2]، هذا تعظيمٌ كبيرٌ لشأنها؛ لأن شأنها فوق ما يمكن أن يستوعبه الإنسان، حتى بعدما نسمع آيات الله عنها، قد لا نستوعب نحن مستوى أهميتها، بالنظر إلى ضعف استيعابنا لكثيرٍ من الأمور المهمة، في ما نعانيه من تلوث أنفسنا، وأفكارنا، واتجاهنا الذهني والنفسي، والانشغالات التي يُبتلى بها الإنسان؛ حتى تضعف من مدى قابليته، وتفاعله، واستيعابه للأمور العظيمة والمهمة.
{لَيْلَةُ الْقَدْرِ خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ شَهْرٍ}[القدر: الآية3]، فالمسألة هي ليست أنها تعادل فقط ألف شهر، بل خيرٌ من ألف شهر، {تَنَزَّلُ الْمَلَائِكَةُ وَالرُّوحُ فِيهَا بِإِذْنِ رَبِّهِمْ مِنْ كُلِّ أَمْرٍ}[القدر: الآية4]، نزولهم متصل في إطار التدبير الإلهي لأمور الناس، وأنت من الناس، أنا وأنت من الناس، لأمورنا، فكيف ينبغي أن نكون في ليلةٍ كهذه؟ {سَلَامٌ هِيَ حَتَّى مَطْلَعِ الْفَجْرِ}[القدر: الآية5].
قلنا في بداية الحديث: من المهم أن يتنوَّع برنامج الإنسان في ليلة القدر، وذلك يعني على مستوى الاهتمام في كل الليالي العشر، أن يكون لدى الإنسان اهتمام متنوع في الليالي العشر:
- من ضمن ذلك: الاهتمام بالدعاء فيها:
يعني: من أهم ما نركِّز عليه في العشر الأواخر، ونحن نلتمس ليلة القدر: العناية بالدعاء، وفي مسألة الدعاء من المفترض أن نُركِّز على الاستفادة من الأدعية القرآنية؛ فهي أدعية مباركة وجامعة، وذات أهمية كبيرة لنا:
- من ضمن ذلك: الدعاء الجامع:
الدعاء الجامع، الذي هو جمع خير الدنيا والآخرة وباختصار: {رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ}[البقرة: من الآية201]، هذا دعاءٌ عظيم، ودعاءٌ جامعٌ لخير الدنيا والآخرة، وفيه أيضاً طلب النجاة من النار، من عذاب الله، ودعاء ميسَّر، يستطيع أن يحفظه الكبير والصغير، يستطيع الجميع أن يحفظه، أن يردده، أن يُقْبِل به على الله “سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى”، أن يركِّز أثناءه، فهو من الأدعية القرآنية المهمة جداً.
- من ضمن ما نُركِّز عليه في الأدعية: طلب المغفرة:
الإكثار من الاستغفار من جهة، وفي الدعاء نفسه، وهناك أدعية كثيرة، وهذا ملحوظ في أدعية الأنبياء، في مقدِّمة ما يدعون به ويطلبونه من الله: المغفرة: (ربنا اغفر لي، رب اغفر لي) كم تتكرر في دعاء الأنبياء في القرآن الكريم، وفي المأثور عن النبي “صَلَوَاتُ اللَّهِ عَلَـيْهِ وَعَلَى آلِه”.
- من الأدعية المباركة المهمة، التي ينبغي أن يُركِّز الإنسان عليها في العشر الأواخر وهو يلتمس ليلة القدر: دعاء الراسخين في العلم:
{رَبَّنَا لَا تُزِغْ قُلُوبَنَا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا وَهَبْ لَنَا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ}[آل عمران: الآية8]؛ لأنه دعاءٌ بالنجاة من الزيغ، من زيغ القلوب، وما أخطر زيغ القلوب! حالة خطيرة على الإنسان أن يزيغ قلبه، وينحرف عن نهج الحق، وعن طريق الحق، وينحرف إلى المعاصي، إلى الفساد، إلى الضلال، حالة خطيرة جداً على الإنسان، وهو دعاء من؟ دعاء الراسخين في العلم، الذين لم يغتروا، ولم يتكلوا على أنفسهم، بالرغم مما هم عليه من العلم الراسخ، والوعي العميق، والمعرفة الصحيحة القوية، فلم يتَّكلوا على أنفسهم، ولم يكتفوا بأنفسهم، ولجأوا إلى الله “سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى” يطلبون منه أن ينجيهم من الزيغ، من زيغ القلوب، وهو دعاءٌ بالثبات، بالثبات على الحق، وعلى الاستقامة على الحق، فهو من الأدعية المهمة: {رَبَّنَا لَا تُزِغْ قُلُوبَنَا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا وَهَبْ لَنَا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ}.
- من الأدعية العظيمة، والمهمة، والمباركة: دعاء الرَّبَّانِيِّين:
والله “سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى” ذكره في (سورة آل عمران)، وهو الدعاء الذي كان يدعو به الربيون من أتباع الأنبياء “عَلَيْهِمُ الصَّلَاة وَالسَّلَام”: {رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَإِسْرَافَنَا فِي أَمْرِنَا وَثَبِّتْ أَقْدَامَنَا وَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ}[آل عمران: من الآية147]، وهو دعاء مهم جداً، كذلك دعاء بطلب المغفرة، بطلب التثبيت والنصر، وهو دعاء عظيم ومهم جداً.
- وكذلك من الأدعية المهمة، والمباركة، والعظيمة: دعاء أصحاب الكهف:
دعاء أصحاب الكهف دعاء له أهمية ومعنىً عميق ومهم: {رَبَّنَا آتِنَا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً وَهَيِّئْ لَنَا مِنْ أَمْرِنَا رَشَدًا}[الكهف: من الآية10]، الإنسان بحاجة إلى أن يهيئ الله له الرَشَد من أمره؛ لأن الإنسان على مستوى ما يعانيه في حياته نتيجة توجهات خاطئة، أو قرارات خاطئة، أو مواقف خاطئة، أو تصرفات خاطئة، لها نتائج تنعكس بشكل معاناة في حياة الإنسان، لكن بما يهيئه الله لنا في هدايته، وتدبيره، وتوفيقه، وما يتحقق على ذلك من النتائج: ما فيه الخير والسلامة، وما فيه الفوز والفلاح، وما فيه الظَفر بالنتائج العظيمة، ونحظى بالرعاية الإلهية، فنحن بحاجة إلى هذا الدعاء، وهو دعاءٌ مهم.
وهكذا هناك أدعية قرآنية أخرى، هذا على سبيل المثال.
هناك أدعية مأثورة، عظيمة، مباركة: عن رسول الله “صَلَوَاتُ اللَّهِ عَلَـيْهِ وَعَلَى آلِه”، وعن أمير المؤمنين عليٍ “عَلَيْهِ السَّلَامُ”، أدعية مأثورة عن زين العابدين “عَلَيْهِ السَّلَامُ”، أدعية مأثورة عن أهل البيت “عَلَيْهِمُ السَّلَام”، عن الصالحين من أخيار الأمة، وهناك أيضاً ما قد أُعْدَ وطُبِّع ووُزِّع للبرنامج اليومي من الأدعية، وتضمنت من الأدعية القرآنية، والأدعية المأثورة عن النبي “صَلَوَاتُ اللَّهِ عَلَـيْهِ وَعَلَى آلِه”، وعن أمير المؤمنين، وعن زين العابدين، أدعية جيدة يمكن الاستفادة منها.
فالدعاء هو من أهمِّ ما نركِّز عليه في الليالي العشر ونحن نلتمس ليلة القدر، مع الإقبال على الله “سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى”، والتركيز أثناء الدعاء؛ لأن هذا مهمٌ جداً، أن ندعو الله بتضرُّع، بإقبال.
- مما هو مهمٌ أيضاً: الاستغفار والذكر:
الذكر بأنواعه الواسعة، من: تسبيح، وتهليل، وتحميد، وتكبير… وغير ذلك.
- كذلك صلاة النافلة، مع الاهتمام بصلاة الفريضة:
جزءٌ من اهتمامات الإنسان بإقبال على الله “سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى”.
- وتلاوة القرآن:
تلاوة القرآن هي أيضاً من أعظم القُرَب إلى الله “سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى”، ولأننا نهتدي بالقرآن، عندما نتأمل في آياته، ونصغي لآياته، نستفيد، ننتفع، ومن بركات ليلة القدر يؤمَّل للإنسان ويرجى- والإنسان يرجو من الله الخير- أن ينتفع أكثر، وقد يكون ما ينتفع به في تلك الليلة مؤثراً تأثيراً عظيماً وإيجابياً على نفسه، على توجهه، وعوناً له في نفسه، وتجاه مستقبله؛ للاستقامة على نهج الله “سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى”، والانتباه من جوانب هو يقصِّر فيها، أو ينبغي الاهتمام بها… وغير ذلك، يكتسب من هدى الله “سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى” ما يزداد به وعياً، ونوراً، وبصيرةً، وفهماً.
- أيضًا الإنفاق في سبيل الله، الصدقة، صلة الرحم:
هي من الأشياء المهمة، الأعمال الصالحة ميدانها واسع، ولا ندخل في التفاصيل.
من المهم أن يكون لدى الإنسان إقبال وتوجه جاد بينه وبين الله “سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى”، في عزمه وتوجهه على الاستقامة على هدي الله، ونهج الله، والطاعة لله “سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى”، مع الاستعانة بالله، الإنسان بحاجة دائماً إلى أن يكون ملتجئًا إلى الله؛ ليوفِّقه، ليعينه، ليثبِّته، ليسدده، لكن على مستوى القرار، عليه أن يقرر، أن يتجه بجد، هذه مسألة مهمة للإنسان فيما بينه وبين الله، وفيما يكتبه له الله “سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى”.
فهذه بعض النقاط المهمة المتعلِّقة بالعشر الأواخر من بدايتها، ولالتماس ليلة القدر فيها.
في مستهل العشر الأواخر، في بدايتها، في ليلة الحادي والعشرين من شهر رمضان المبارك أيضاً ذكرى استشهاد أمير المؤمنين عليٍّ “عَلَيْهِ السَّلَامُ”، حيث ارتقى شهيداً، ولحق بالرفيق الأعلى ليلة الحادي والعشرين من شهر رمضان، سنة أربعين للهجرة، هو استهدف غِيلةً، ضَرَبَه ابن ملجم لعنه الله، أشقى الأولين والآخرين، ضربه بالسيف في مسجد الكوفة، عندما خرج لصلاة الفجر، في ليلة التاسع عشر من شهر رمضان المبارك، وارتقى شهيداً في ليلة الحادي والعشرين.
أمير المؤمنين عليٌّ “عَلَيْهِ السَّلَامُ” حظي بحسن الختام شهيداً فائزاً، في ليلةٍ مباركة، وهو متممٌ بذلك رصيده العظيم من الأعمال الصالحات، التي كان فيها سبَّاقاً، ومبادراً، ومتميزاً، وقد استقبل الشهادة بقوله: ((فُزتُ وَرَبِّ الكَعبَةِ))، هذا الاستقبال العجيب والعظيم والمميز، استقبلها وهو مؤمنٌ، وواثقٌ، ومبشَّرٌ من قبل، كما بشَّره رسول الله “صَلَوَاتُ اللَّهِ عَلَـيْهِ وَعَلَى آلِه” بالشهادة شهيداً، فائزاً، مقبولاً عند الله “سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى”، وقد سَلِمَ له دينه؛ لأنه عندما بشَّره النبي وأخبره بالشهادة، أخبره أنه سيُقتَل، وستخضب لحيته من دم رأسه، قال: ((أَفِي سَلَامَةٍ مِن دِينِي؟ قَالَ: نَعم))، قال له رسول الله “صَلَوَاتُ اللَّهِ عَلَـيْهِ وَعَلَى آلِه”: ((نَعم. قَالَ: إِذاً لَا أُبَالِي))، فهو كان مستبشراً؛ لأنه كان على طريقةٍ يفوز من سار عليها، وهو استقام على نهج الله، على الحق، على الصراط المستقيم، فلقي الله على ذلك، فكان يسير في تلك الطريق العظيمة: طريق الحق، الصراط المستقيم، ولقي الله على ذلك، ((فُزتُ وَرَبِّ الكَعبَةِ)).
والختام- بنفسه- أيضاً بالشهادة فوزٌ عظيم، بالرغم من أعماله العظيمة، من جهادٍ في سبيل الله، من مختلف الأعمال الصالحة، من سبقه، من إيمانه العظيم، من البشارات التي حظي بها فيما قبل، بشارات وثناء في آياتٍ قرآنية، فيما قاله أيضاً رسول الله “صَلَوَاتُ اللَّهِ عَلَـيْهِ وَعَلَى آلِه”، إلَّا أنه كان يرى الشهادة مقاماً أيضاً أسمى وأهم للارتقاء أكثر؛ فلذلك كانت أمنيَّةً له.
فيما كان استشهاده فوزاً عظيماً له، إلَّا أن ذلك أيضاً كان خسارةً رهيبةً على الأمة، في مرحلةٍ خطيرة من أخطر المراحل التي تحرَّكت فيها فئة المنافقين، واستشهاده كان باستهدافٍ من قِبَل حركة النفاق في الأمة، في ارتباطها لخدمة أعداء الإسلام؛ لأن حركة النفاق في الأمة هي حركة تخدم أعداء الإسلام، يعني: ليست حركةً أصيلة، هي حركة لها امتدادها في ولائها، في عمالتها بأعداء الإسلام، ومرتبطة بأعداء الإسلام، فحركة النفاق التي حَمَل رايتها آنذاك طغاة بني أمية، استهدفت أمير المؤمنين علياً “عَلَيْهِ السَّلَامُ”؛ لأنه يمثل أكبر عائقٍ أمامها في أهدافها للسيطرة على الأمة، والانحراف بالأمة، والتغيير لمسار الأمة، والتزييف للانتماء الإسلامي للأمة، كانت ترى في أمير المؤمنين عليٍّ “عَلَيْهِ السَّلَامُ” أكبر عائقٍ أمامها.
ولهذا ندرك أهمية دور أمير المؤمنين عليٍّ “عَلَيْهِ السَّلَامُ” بالنسبة لنا كأمة مسلمة، للأمة الإسلامية بشكلٍ عام، أنه كما قدَّم النموذج الكامل الراقي للإسلام في مبادئه، وقيمه، وأخلاقه، وآثاره التربوي، وحمل راية الإسلام كجنديٍ ومؤازرٍ لرسول الله “صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَسَلَّم”، وأسهم إسهاماً عظيماً في إقامة دين الله، والتصدي لأعداء الإسلام، فهو أيضاً يمثل الامتداد الأصيل النقي للإسلام، وهذه مشكلة حركة النفاق معه: أنه يمثل الامتداد الأصيل النقي للإسلام، وهو الشيء الذي بيَّنه الرسول “صَلَوَاتُ اللَّهِ عَلَـيْهِ وَعَلَى آلِه”، ونبَّه عليه الأمة، تجاه ما يعني لها دور عليٍّ “عَلَيْهِ السَّلَامُ”؛ ولذلك أتت النصوص المهمة التي نقلتها الأمة بمختلف مذاهبها:
- من مثل قول رسول الله “صَلَوَاتُ اللَّهِ عَلَـيْهِ وَعَلَى آلِه”: ((عَلِيٌّ مِنِّي بِمَنزِلَةِ هَارُونَ مِنْ مُوسَى، إِلَّا أَنَّهُ لَا نَبِيَّ بَعْدِي)).
- ومن مثل قوله “صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَسَلَّم” لعليٍّ “عَلَيْهِ السَّلَامُ”: ((لَا يُحِبُكَ إلَّا مُؤمِن، وَلَا يُبغِضُكَ إِلَّا مُنَافِق))، فنجد أنَّ المنافقين لديهم مشكلة، ما هي مشكلتهم مع أمير المؤمنين “عَلَيْهِ السَّلَامُ”؟ أنَّه يمثل الامتداد النقي الأصيل للإسلام، وهم يسعون إلى تزييف شكل الإسلام بما يتوافق معهم.
- من مثل قول رسول الله “صَلَوَاتُ اللَّهِ عَلَـيْهِ وَعَلَى آلِه”: ((عَلِيٌّ مَعَ القُرْآنُ، وَالقُرْآنُ مَعَ عَلِيّ)).
- ومن مثل قوله: ((عَلِيٌّ مَعَ الحَقّ، وَالحَقُّ مَعَ عليّ)).
ولهذا ندرك أهمية هذا الدور بالنسبة لنا، إذا عرفنا أنَّ من أخطر ما تسعى له حركة النفاق في داخل الأمة هو التزييف للإسلام: تقديم صورة مزيَّفة عن الإسلام، تتأقلم وتتوافق مع الطغاة، مع المجرمين، مع الظالمين، مع الكافرين أيضاً، وهذه قضية خطيرة، وقضية استمر خطرها في داخل الأمة، اشتغل على هذا النظام الأموي لدهر طويل، اشتغلت عليه أنظمة متعاقبة، ويشتغل عليه الأعداء في هذه المرحلة، في هذا العصر بشكل كبير جداً.
فالأعداء: اللوبي اليهودي الصهيوني في المقدِّمة، يرى أنَّ الإسلام في حقيقته النقية، في حقيقته الأصيلة، الإسلام في أصله كما هو، يشكِّل عائقاً أمام اللوبي اليهودي الصهيوني، عائقاً حقيقياً؛ لأن البرنامج اليهودي الصهيوني هو برنامج فساد، إجرام، رذيلة، منكر، باطل، ضلال… وهكذا، اتِّجاه في طريق الانحراف بالبشرية عن رسالة الله، عن تعليمات الله، والإسلام هو دين الحق، والعدل، والنور، والفضيلة، والقيم، والقسط، والخير؛ فأولئك- بشرهم، وفسادهم، ومنكرهم، وباطلهم، ورذيلتهم، وفحشائهم- يجدون في الإسلام أنَّه متباينٌ معهم، ويحصِّن المجتمع مما يريدونه به، من: الإفساد، والشر، والإضلال… وغير ذلك، فهم يسعون إلى أن يزيحوا هذا العائق.
من وسائل الازاحة لهذا العائق، هو: التزييف، وتقديم صورة ممسوخة، مشوَّهة، محسوبة على الإسلام، وليست هي الإسلام في حقيقته، ونقائه، وصورته الواقعية، وهذه قضية خطيرة؛ ولذلك نرى بكل وضوح، وبأدنى تأمل، أنَّه فيما يتعلق بعصرنا الراهن، هناك عمل للأعداء (للوبي اليهودي الصهيوني، وأتباعه، أتباعه في الغرب، أتباعه من الصهاينة، من صهاينة النصارى وغيرهم) هناك عمل في خطين متوازيين، في مسألة التزييف، وتقديم صورة مشوَّهة مزيفة عن الإسلام:
- خط معيَّن، مبني على حالة التشويه بالتشدد والإفراط، وتقديم صورة متزمِّتة، إجرامية، متوحشة عن الإسلام:
وهذا هو المسار التكفيري، يبرز تحت عنوان التشدد الديني، لكن بطريقة بعيدة عن الالتزام الديني، فيها إساءة، فيها إجرام، فيها وحشية، فيها تشويه للجهاد في سبيل الله، فيها قتل الأبرياء، وفي المقدِّمة: المسلمين، قتل للمسلمين في أسواقهم، في مساجدهم، في مختلف تجمعاتهم، واختيار جرائم معينة، مقيتة، وسلبية، ومشوِّهة جداً؛ فذلك الخط يتَّجه على أنه يمثل التشدد في الإسلام، والالتزام الإسلامي، والجهاد، وهو في نفس الوقت يحقق هدفين للأعداء:
- التشويه من جهة، بالطابع الإجرامي، الوحشي، المتزمِّت، والخالي من أي رسالة إيجابية في الحياة، ومن أي دورٍ حضاريٍ في الحياة؛ إنما صورة متزمِّتة، متوحشة، إجرامية، عدوانية، ليس لها مشروع بنَّاء في هذه الحياة، ولا مشروع حضاري، يقدِّم حضارة الإسلام في هذه الحياة، وهم يشتغلون في هذا الاتِّجاه؛ فيؤدِّي الدور في التشويه.
- وأيضاً القتل لأبناء الأمة، التدمير للأمة، الاستنزاف للأمة في مقدراتها، في رجالها، في ثروتها؛ لأنه يثير الفتن، ويفتح الجبهات على الأمة من الداخل، ويصرّ على ذلك، ولا يقبل بأن يفتح الجبهة ضد العدو الحقيقي للأمة.
فبالرغم مما يحصل الآن في غزة، وما يشاهده كل العالم، وفي المقدِّمة المسلمون، من إجرام رهيب، وعدوان ظالم غاشم، من قِبَل العدو الصهيوني، ضد الشعب الفلسطيني، لا يتحرك التكفيريون، ولا تتحرك لا القاعدة ولا داعش لفتح جبهة مباشرة لقتال العدو الإسرائيلي، مع أنهم يقدِّمون أنفسهم أنهم يمتلكون القدرة على الاختراق لكل الدول، الوصول إلى أوروبا، الوصول إلى روسيا، الوصول إلى أي بلدٍ يريدون، وتفجيرات فيه، وأعمال قتالية فيه… وغير ذلك، ينتشرون في عالمنا الإسلامي في أي بلدٍ يريدون، ينفِّذون جرائمهم في مختلف البلدان العربية، إذا حُدِّدت لهم بوصلة باتجاه قطرٍ عربي، أو بلدٍ عربي هنا أو هناك، اتَّجهوا إليه أفواجاً، بزخم كبير، وضغط كبير، وقتال، وشراسة، واستبسال، ووحشية، وإجرام رهيب، لكن باستثناء العدو الإسرائيلي، لا يريدون أبداً أبداً أن يفتحوا جبهةً عليه، ولا حتى بالتحريض ضده، ولا حتى بالحديث عنه كعدو، يحاولون أن يهمِّشوا هذا الجانب، وكأنه لا يوجد شيء اسمه اليهود الصهاينة، يحتلون أرض فلسطين، يقتلون الشعب الفلسطيني، يرتكبون أبشع الجرائم في الاستهداف للشعب الفلسطيني، كأن ذلك لا يوجد أبداً.
فهذا الخط الذي يصنعه الأعداء، ويشتغلون عليه، وهو نسخة لها ما يشابهها في التاريخ الإسلامي، وصولاً إلى ابن ملجم، لكن الأعداء يشتغلون في اتِّجاه واحد.
- والخط الآخر الذي يوازيه، هو: خط التمييع، خط التمييع، والإفساد، وتقديم صورة غريبة عن الإسلام:
يعني: تقديم نوع آخر ينتمي للإسلام، يدَّعي تمثيله للإسلام، وهو يستبيح الرذائل، والمنكرات، والفواحش، وسيقيم مهرجانات للفحشاء والمنكر، ويعمل الأعمال الفظيعة، وإلى درجة أنهم في فرنسا عيَّنوا إماماً لمسجد، وهو بصفة إمام مسجد، وهو يُشِيد بمن يرتكبون جرائم الشذوذ، وما يسمونه بالمثلية، ويتحدث عنها بتشجيع، وتحفيز، وترغيب، وإشادة، وكأن الموضوع عاديٌ في الإسلام.
فهم يشتغلون ويعملون في خطين متوازيين؛ لتزييف صور محسوبة على الإسلام، لكنها سلبية؛ لإبعاد الناس عن الإسلام في أصالته، في نقائه، في مبادئه العظيمة، التي ترتقي بالإنسان، في قيمه الحضارية، في قيم الحق، والعدل، والقسط، والخير، والمشروع الحضاري الإسلامي الحقيقي البنَّاء.
وهذه هي مشكلتهم مع أمير المؤمنين عليٍّ “عَلَيْهِ السَّلَامُ”؛ لأنه يمثل الامتداد الأصيل للإسلام، وندرك أهمية ذلك فيما يعنيه لنا، هو نموذج يجسِّد تكامل الإيمان وعياً، وبصيرةً، وجهاداً، ورحمةً، وحكمةً، وإنسانية، فأمير المؤمنين هو نسخة للإسلام، تجسَّدت في أرض الواقع، ولامتداده النقي والأصيل.
في ختام الكلمة نتحدث للتبرك ببعضٍ من النصوص التي قالها أمير المؤمنين عليٌّ “عَلَيْهِ السَّلَامُ” في لحظاته الأخيرة، في الليالي الأخيرة من بعد إصابته، من وصاياه.
لمَّا استهدف أمير المؤمنين علي “عَلَيْهِ السَّلَامُ”، أثناء خروجه لصلاة الفجر في ليلة التاسع عشر من شهر رمضان المبارك، سنة أربعين للهجرة، بعد أن أصيب بالسيف على رأسه الشريف، استند إلى اسطوانة المسجد، والدماء تسيل على شيبته، وضجَّ الناس في المسجد بالبكاء، كهيئة يوم قُبِض فيه النبي “صَلَوَاتُ اللَّهِ عَلَـيْهِ وَعَلَى آلِه”، في تلك اللحظات وهو يستند إلى اسطوانة المسجد، والدماء تسيل على شيبته، إثر إصابته فوراً، ابتدأ خطيباً، وتحدث مع الناس في خطابه الأخير، فقال بعد الثناء على الله تعالى، والصلاة على نبيه “صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَسَلَّم”: ((أيُّهَا النَّاسُ، كلُّ امرِئٍ لَاقٍ مَا يَفِرُّ مِنهُ فِي فِرارِه، الأَجلُ مَسَاقُ النَّفسِ، وَالهَرَبُ مِنهُ مُوَافَاتُه))، يعني: الإنسان مهما بقي في هذه الحياة وهو يتوقى، ويحاذر بفطرته، وغريزته، وما وهبه الله إياه، لسلامة نفسه، ودفع الموت عن نفسه، ودفع الخطر عن نفسه، إلَّا أنه عندما يأتي الأجل، يلقى الإنسان أجله، تأتي النهاية الحتمية والرحيل من هذه الحياة.
((الأَجلُ مَسَاقُ النَّفسِ، وَالهَرَبُ مِنهُ مُوَافَاتُه، كَم أَطرَتُ الأَيَام أَبحثُهَا عَنْ مَكنُونِ هَذَا الأَمر، فَأبَى اللهُ إِلَّا إِخفَاءَهُ))؛ لأن رسول الله “صَلَوَاتُ اللَّهِ عَلَـيْهِ وَعَلَى آلِه” كان قد أخبره أنه سيختم له بالشهادة، وسيقتله أشقى الأمة، شخص محسوب ينتسب إلى هذه الأمة، ولكنه مجرمٌ، شقيٌ، خائبٌ، خاسر، جلب الشقاء على الأمة، فبقية التفاصيل: [أين؟ ومتى؟ في أي لحظة؟]، هذه أمور يقول: كم بحثتُها، وكم بحثتُ عنها، وكم فكرتُ فيها، ولكن تأتي في وقتٍ معين ولم يكن عالماً ببعض التفاصيل التي ستواجهه.
((فَأبَى اللهُ إِلَّا إِخفَاءَهُ، هَيْهَاتَ عِلمٌ مَخزُون، أَمَّا وَصِيَتِي: فَاللهَ لَا تُشرِكُوا بِهِ شِيئاً))، يعني: ابقوا على ملة التوحيد، في التوجه نحو الله “سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى”، في الالتزام بعبادته، والخضوع لنهجه، والالتزام بهديه، اتَّجهوا هذا الاتجاه، ((وَمُحَمَّداً “صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ” فَلَا تُضَيِّعُوا سُنَتَه))، التزموا بالأسوة والاقتداء بالرسول “صَلَوَاتُ اللَّهِ عَلَـيْهِ وَعَلَى آلِه”، ((أَقِيمُوا هَذِينِ العَمُودِين، وَأَوقِدُوا هَذِينِ المِصبَاحِين، وَخَلَاكُم ذَمٌّ مَا لم تَشرُدُوا))، يعني: إذا اتجهتوا هذا الاتجاه، فهو الاتجاه الذي تؤدُّون ما عليكم، وتسلمون فيه من الذم، واللوم، والعقاب، ((مَا لم تَشرُدُوا)): ما لم تخرجوا عن هذا الطريق.
((حُمِّلَ كُلُ امرِئٍ مِنْكُم مَجهُودَهُ، وَخُفِّفَ عَنِ الجَهَلَة))؛ لأن الله كلفنا ما نستطيع، وما هو في طاقتنا، ((رَبٌّ رَحِيم، وَدِينٌ قَويم، وَإِمَامٌ عَلِيم، أَنَا بِالأَمسِ صَاحِبُكُمْ، وَأَنَا اليُومَ عِبرَةٌ لَكُم، وَغَداً مُفَارِقُكُم، غَفَرَ اللهُ لِي وَلَكُم، إِنْ تَثْبُتِ الوَطأةُ فِي هَذِهِ المَزَلَّة فَذَاك))، يعني: إن أنا شفيت هذه المرة من هذه الجراحة، وبقي لي من أيامي فذاك، ((وَإِنْ تُدْحَضِ القَدَم))، يعني: إن لم أُشفَ من هذه الجراحة، وكُتِبَ لي الرحيل والشهادة، ((فَإِنَّا كُنَّا فِي أَفيَاءِ أَغصَان، وَمَهَابِ رِيَاح، وَتَحْتَ ظِلِ غَمَام، اضمَحَلَّ فِي الجوِ مُتَلَفِّقُهَا، وَعَفَى فِي الأَرْضِ مَخَطُّهَا))، وهذا تصوير بليغ لظروف هذه الحياة، كيف تمضي بسرعة، وكأننا عبرنا منها عبوراً سريعاً، عشنا فيها هذه الأجواء: سحابها وهو فوقنا، ورياحها وهي تهب علينا، ومتغيرات هذه الحياة التي سرعان ما تعبُر، وتنتهي، وتتلاشى، ونرحل من هذه الحياة.
((فَإِنَّا كُنَّا فِي أَفيَاءِ أَغصَان، وَمَهَابِ رِيَاح، وَتَحْتَ ظِلِ غَمَام، اضمَحَلَّ فِي الجوِ مُتَلَفِّقُهَا، وَعَفَى فِي الأَرْضِ مَخَطُّهَا، وَإِنَّمَا كُنْتُ جَاراً جَاورَكُم بَدَنِي أَيَاماً))؛ لأن نفسه وروحه كانت متَّجهة إلى الله، متصلةً بالله “سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى”، ((وَسَتُعقَبُونَ مِنِّي جُثةً خَلَاءً سَاكِنَةً بَعدَ حَرَاك، وَصَامِتَةً بَعدَ نُطق، لِيَعِظُكُم هُدُوِّي، وَخُفُوتُ إِطرَاقِي، وَسكُونُ أَطرَافِي))، يعني: خذوا العبرة مني بعد شهادتي، عندما تشاهدون جثماني، لم يعد فيه حركة، ولا حياة، ولا نطق… ولا شيء، خذوا العظة والعبرة من ذلك.
((فَإِنَّهُ أَوعَظُ لِلمُعتَبِرِين مِنَ المَنطِقِ البَلِيغ، وَالقَوْلِ المَسْمُوع، وَدَاعِي لَكُم))، يودعهم، ((وَدَاعِي لَكُم وَدَاعُ امرِئٍ مُرصِدٍ لِلتَّلَاقِي))؛ لأنه كان مُعداً ومستعداً للقاء الله “سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى”، ((غَداً تَرُونَ أَيَامِي))؛ لأنهم لم يعرفوا قدره، ولا قدر وجوده ودوره العظيم، ((غَداً تَرُونَ أَيَامِي، ويُكشَفُ لَكُمْ عَنْ سَرَائِرِي، وَتَعرِفُونَنِي بَعدَ خُلُوِّ مَكَانِي، وَقِيَامِ غَيرِي مَقَامِي، وَاللهِ مَا فَجَأَنِي مِنَ المَوْتِ وَارِدٌ كَرِهتُه، وَلَا طَالِعٌ أَنكَرتُه))، يعني: لم يتفاجأ، ليس قلقاً من مسألة رحيله من هذه الحياة بعد أن حظي بالشهادة، وهو في ذلك الإعداد للعمل الصالح، والأعمال العظيمة، والرصيد العظيم، الذي قد أعدَّه ليلقى الله به، ((وَإِنَّمَا كُنْتُ كَقَارِبٍ وَرَد))، كالذي كان يطلب الماء في الليل، ووصل إليه، ((وَإِنَّمَا كُنْتُ كَقَارِبٍ وَرَد، وَطَالِبٍ وَجَد، وَمَا عِنْدَ اللهِ خَيْرٌ لِلْأَبْرَارِ)).
نكتفي بهذا المقدار…
وَنَسْألُ اللَّهَ “سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى” أَنْ يُوَفِّقَنَا وَإِيَّاكُم لِمَا يُرْضِيهِ عَنَّا، وَأَنْ يَرْحَمَ شُهَدَاءَنَا الأَبْرَار، وَأَنْ يَشْفِيَ جَرْحَانَا، وَأَنْ يُفَرِّج عَنْ أَسرَانَا، وَأَنْ يَنْصُرَنَا بِنَصْرِه، إِنَّهُ سَمِيعُ الدُّعَاء.
وَالسَّـلَامُ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَةُ اللهِ وَبَرَكَاتُهُ؛؛؛