أَعُـوْذُ بِاللَّهِ مِنْ الشَّيْطَان الرَّجِيْمِ
بِـسْـــمِ اللَّهِ الرَّحْـمَـنِ الرَّحِـيْـمِ
الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ، وَأَشهَدُ أَنَّ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ الْمَلِكُ الْحَقُّ المُبين، وَأشهَدُ أنَّ سَيِّدَنا مُحَمَّداً عَبدُهُ ورَسُوْلُهُ خَاتَمُ النَّبِيِّين.
اللَّهُمَّ صَلِّ عَلى مُحَمَّدٍ وَعَلَى آلِ مُحَمَّد، وَبارِكْ عَلى مُحَمَّدٍ وَعَلَى آلِ مُحَمَّد، كَمَا صَلَّيْتَ وَبَارَكْتَ عَلَى إِبْرَاهِيمَ وَعَلَى آلِ إِبْرَاهِيمَ إِنَّكَ حَمِيدٌ مَجِيدٌ، وَارضَ اللَّهُمَّ بِرِضَاكَ عَنْ أَصْحَابِهِ الْأَخْيَارِ المُنتَجَبين، وَعَنْ سَائِرِ عِبَادِكَ الصَّالِحِينَ وَالمُجَاهِدِين.
الَّلهُمَّ اهْدِنَا، وَتَقَبَّل مِنَّا، إنَّكَ أنتَ السَّمِيعُ العَلِيم، وَتُبْ عَليَنَا، إنَّكَ أنتَ التَّوَّابُ الرَّحِيمْ.
أيُّهَا الإِخْوَةُ وَالأَخَوَات:
السَّـلَامُ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَةُ اللَّهِ وَبَرَكَاتُهُ؛؛؛
في سياق الحديث على ضوء الآيات المباركة (من سورة البقرة)، التي يبيَّن الله لنا فيها البعض من قصة آدم “عَلَيْهِ السَّلَامُ”، واستخلافه في الأرض، وبداية الوجود الإنساني، نتحدث في هذه المحاضرة عن بعضٍ من الدروس والعبر المهمة، التي نستفيدها من القصة، في سياقها الذي وردت فيه؛ لأن القصة- كما ذكرنا سابقاً- وردت في عدة سور من القرآن الكريم، ومنها: (سورة البقرة، وسورة الأعراف، وكذلك في سورة طه، وسورة الإسراء، وسورة الحجر)، وسور أخرى في القرآن الكريم، في كل سورة أتت ضمن سياق معيَّن، وركَّزت في ذلك السياق على نقاط معينة ومواضيع معينة، فسياقها (في سورة البقرة) فيه نقاط مهمة جداً، ودروس وعبر مهمة، نتحدث عن البعض منها:
- من أهم الدروس التي نستفيدها في هذا السياق المهم للقصة: أهمية ترسيخ التسليم لله “سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى”:
والذي هو من أهم المبادئ الإيمانية. في إيماننا بالله من أهم المبادئ المرتبطة بالإيمان: أن نرسِّخ التسليم لله “سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى”، فيما يأمرنا به، أو يوجهنا إليه، أو يُشَرِّعه لعباده، وهذه مسألةٌ مهمةٌ جداً، فالإنسان أحياناً قد يضطرب أو يتساءل تجاه ما قد يخفى عليه وجه الحكمة فيه، تجاه تشريع ثابت من تشريعات الله “سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى”، ثم يحصل لدى الإنسان اضطراب، أو تساؤل، أو إشكال؛ لأنه خفي عليه وجه الحكمة، فنرجع إلى القاعدة الإيمانية بأن الله “سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى” هو العليم الحكيم، يعلم ونحن نجهل، هو “سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى” أحكم الحاكمين، فلنحسب المسألة في إشكالنا تجاه التشريع الثابت، الذي هو ثابتٌ واضح، نرجع إلى أن السبب الحقيقي هو جهلنا؛ لأن الله يعلم ما لا نعلم، ونحن نجهل الكثير جداً، وأنه أحكم الحاكمين، هذه مسألة مهمة جداً.
وأحياناً قد يكون الإشكال عائداً إلى مسألة النظر من زاوية واحدة، مثلما حصل للملائكة “عَلَيْهِمُ السَّلَامُ”، حيث نظروا إلى مهمة الاستخلاف في الأرض، باعتبارها عبادةً لله “سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى”، إلى ما يعرفونه في واقعهم من طريقة العبادة لله “سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى”، فاتضح لهم في الأخير أن هناك أدواراً متنوعة، متعددة، في إطار العبودية لله “سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى”، وأن دور الإنسان هو في إطار العبودية لله “جلَّ شأنه”، لكنه يختلف عن دور الملائكة، وهذه مسألة مهمة جداً.
- مما نستفيده من القصة، ونحن نجد الفارق الكبير في المواقف الثلاثة، في منشأ وأسباب الموقف، وفي التعامل مع ما أتى تجاه ذلك:
- فنجد بالنسبة للملائكة “عَلَيْهِمُ السَّلَامُ”:
أن سبب تساؤلهم، وعرضهم بأن يقوموا هم بدور الاستخلاف على الأرض، وأيضاً ما يفترض بهم ألَّا يحصل لديهم ذلك التساؤل، لكن الكل بحاجة إلى هداية الله “جلَّ شأنه”، كل مخلوق من المخلوقات: الملائكة، والجن، والإنس، الكل بحاجة إلى هداية الله، فهم استفادوا من الدرس، استفادوا من الدرس كثيراً، وكان من أسباب ارتقائهم في الهداية، وكان وسيلةً مهمةً جداً؛ ولذلك كان انقيادهم عندما أُمِروا بالسجود لآدم انقياداً تاماً، قد انتهى الإشكال والتساؤل، ولم يبقَ هناك أي عائق، فكان انقيادهم انقياداً تاماً لأمر الله “سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى” بالسجود لآدم، فالنتيجة بالنسبة لهم كانت الارتقاء في الهداية، وأن ما حصل بالنسبة لهم كان درساً عظيماً استفادوا منه.
- أمَّا في موقف إبليس:
فنجد الفارق الكبير، منشأ موقفه هو التكبر، هو الاتهام لله “سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى” في عدله وحكمته، هو الغرق في الأنانية، والتمحور حول الذات، أصبح يعبد نفسه، بدلاً من أن يعبد الله، وأن يذوب في الخضوع لله “جلَّ شأنه”، عظُمت عنده نفسه إلى درجة رهيبة، وحصلت عنده عقدة الكبر؛ ولذلك عاند، وأبى، واستكبر، وامتنع، وأصرَّ على موقفه، على عصيانه، فكانت النتيجة نتيجة رهيبة بالنسبة له: تحول إلى لعين، وإلى مطرود من رحمة الله “جلَّ شأنه”، إلى مذموم، إلى رجيم، إلى ضال، بسبب ذلك الموقف، وأحياناً الموقف الواحد قد تكون خطورته إلى هذه الدرجة: إلى درجة أن يصرف الإنسان عن نهج الحق، وعن دين الله “سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى”، وأن يخرج عن طريق الحق خروجاً نهائياً، لا يعود إليه بعد ذلك أبداً والعياذ بالله.
- أمَّا في موقف آدم وحواء:
فنجد أن مخالفتهم للنهي من أكل الشجرة كانت زلة، أوقعهما الشيطان فيها بخداعه، وهو استمر في عملية الخداع لهما، وكرر مسعاه بأساليب متعددة، وصولاً إلى القسم لهما بالله إنه لهما ناصحاً، {لَمِنَ النَّاصِحِينَ}[الأعراف: من الآية21]، فهو أوقعهما بالخداع، والتغرير، والأكاذيب، مع نسيانهما للتحذير الذي سبق وأن حذرهما الله منه، وحذرهما ونهاهما من أكل تلك الشجرة، وبيَّن لهما بوضوح أن النتيجة: أن الشيطان سيخرجهما من الجنة، عندما لا يحذرا منه بالشكل المطلوب، ولا ينتبها لكيده ومكره، فكان قد سبق التحذير الواضح لهما من الله، حذرهما من الشيطان، ونهاهما عن الأكل من تلك الشجرة، وبيَّن “سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى” لهما العاقبة والنتيجة إن هما أكلا منها، وبيَّن لهما وكشف لهما هدف الشيطان، وهو: إخراجهما من الجنة.
فهما وقعا في تلك الزلة نتيجةً لذلك الخداع والتغرير، مع النسيان وضعف العزم، ثم هما بادرا بالتوبة، والإنابة إلى الله، التوبة الصادقة، توبة آدم “عَلَيْهِ السَّلَامُ” يُضْرَبُ بها المثل، هي توبةٌ عظيمة بادر إلى الله “جلَّ شأنه” تجاه مخالفته لذلك النهي، بالرغم من كل الملابسات والمؤثرات والعوامل التي أوقعه الشيطان فيها، أو بسببها ومن خلالها في الأكل من الشجرة، لكن توبة آدم وحواء “عَلَيهمَا السَّلَامُ” كانت توبةً نصوحاً، وعودةً صادقة إلى الله “سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى”، واعترافاً بالذنب، وندماً شديداً عليه، وبمبادرة، بمبادرة سريعة جداً، بالرجوع إلى الله “جلَّ شأنه”، مع الحذر والانتباه في المستقبل، أصبحت درساً لا ينسى، وكانت الأول والآخر في حذرهما وانتباههما، وأن يكونا في يقظة وانتباه مستمر فيما بعد ذلك.
فنجد فوارق في المواقف الثلاثة:
- ما بين موقف الملائكة في تساؤلهم، والنتيجة التي وصلوا إليها، وهي الارتقاء في الهدايا، والانتباه.
- وما بين موقف إبليس- والعياذ بالله- في عناده، في إصراره، في رفضه للتراجع عن انحرافه.
- في موقف آدم، سواءً في كيفية وقوعه في النهي، في مخالفة النهي، أو ما بعد ذلك بالمبادرة والرجوع إلى الله “سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى”.
- من أهم الدروس المستفادة من موقف الملائكة، حينما تنبهوا بهداية الله لهم، إلى الاستحضار لمقتضى إيمانهم فيما بعد:
يعني: لم يستحضروه مبكراً وقت السؤال، لكنهم وصلوا إلى تلك النتيجة: الإيمان بأن الله عليمٌ حكيم، فهذا درسٌ في أهمية الاستحضار مسبقاً لمقتضى ما يؤمن به الإنسان، هذه مسألة مهمة جداً.
نحن في واقعنا كمسلمين نؤمن بالله “سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى”، ونؤمن بأسمائه الحسنى، ولكن كثيراً ما ننسى مقتضى هذا الإيمان في الواقع العملي، وفي الوقت والظروف التي ينبغي فيها استحضار ذلك الإيمان.
فعلى سبيل المثال: نحن نؤمن بأن الله “سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى” هو القوي العزيز، القاهر فوق العباد، المهيمن على الخلائق، عالم الغيب والشهادة، وأنه على كل شيءٍ قدير. مقتضى هذا الإيمان: الثقة بالله “سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى”، والثقة بوعده، فحينما يقول الله “جلَّ شأنه”: {وَلَيَنْصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ}[الحج: من الآية40]، نلاحظ هنا وعداً من الله “سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى” بالنصر لعباده المؤمنين، إن هم استجابوا لله “سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى”، ونصروا الله “سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى”، وحملوا راية الجهاد، وتحركوا في سبيل الله، لمواجهة الطغيان، والظلم، والإجرام، والاستكبار، ثم نجد الكثير من المسلمين يعيشون حالة أزمة الثقة، الثقة بتنفيذ وعد الله “سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى”، وبإمكانية النصر، مع أن الوعد وعدٌ مؤكد في: {وَلَيَنْصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ}، الصيغة بنفسها: {وَلَيَنْصُرَنَّ اللَّهُ} فيها تأكيد على هذا الوعد الإلهي.
ثم يختم الآية بقوله: {إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ}، عندما نستحضر إيماننا بأن الله قويٌ، مهما كانت قوة أعدائنا وإمكاناتهم، فنحن سنثق بالله “سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى” أنه قادرٌ على أن ينجز وعده بالنصر؛ لأنه القوي، وهو العزيز أيضاً، الذي لا يستطيع أحدٌ أن يُغالبه وأن يغلبه، أو أن يحول بينه وبين تنفيذ ما يريد، وبين تنفيذ وإنجاز وعده.
فاستحضار مقتضى ما نؤمن به مسألة مهمة جداً، نحن نؤمن بالآخرة، نؤمن بالجزاء والحساب، وكثيراً ما يغيب عن بال الإنسان هذا الإيمان، ومقتضى هذا الإيمان، في الحذر من المعصية عند الإغراءات، عند المخاوف، عند العوامل التي توقع الإنسان في المعصية.
فمن الدروس المهمة: أن يحرص الإنسان على أن يستحضر وأن يتذكر مقتضى إيمانه، بما يؤمن به: نؤمن بالله، بأسمائه الحسنى، باليوم الآخر، وهكذا، فهو درسٌ مهم جداً.
- من الدروس التي نستفيدها من هذه القصة المهمة: ما وقع فيه المسلمون من إشكالية كبيرة جداً عندما غاب عنهم مفهوم الاستخلاف في الأرض، فأضاعوا دورهم الحضاري، وبناء واقعهم كأمة قوية:
وهذه إشكالية حقيقية في واقع الأمة، حالة التخلف التي وصلت إليها الأمة الإسلامية بين كل الأمم، حتى وصلت إلى ما وصل إليه، غاب عنها مفهوم الاستخلاف في الأرض، ولم يبقَ هذا المفهوم ليكون أساساً لانطلاقة الأمة، ليكون لديها برنامج ومشروع حضاري، وهذه مشكلة كبيرة جداً.
عندما نأتي مثلاً إلى مسألة الاحتياجات الضرورية للناس في حياتهم، من غذائهم، ودوائهم، وكسوتهم، وسائر متطلبات حياتهم، ونجد أن المسلمين أصبحوا يعتمدون في معظم ذلك على أعدائهم، ولم يعودوا هم أمةً منتجة، لماذا لم يكونوا هم أمةً منتجة، ولم يكن لديهم اهتمام بأن يبنوا حضارة إسلامية متميزة وراقية؟ غاب هذا المفهوم، وبغيابه كانت لديهم القابلية لأن يتحول وضعهم على هذا النحو المؤسف.
نجد كم أن هذا مؤثِّر على الأمة، مؤثِّر عليها في دينها؛ لأن أعدائها يستهدفونها استهدافاً شاملاً، وتصبح مسألة الاعتماد عليهم في ضروريات الحياة ورقة ضغط بأيديهم، يستغلونها على هذه الأمة، فيقومون باعتماد أسلوب الحصار، والعقوبات الاقتصادية، وغير ذلك، كوسيلة من وسائل استهدافهم للأمة، وتعذيبها، والضغط عليها.
من واجب المسلمين أن يكونوا أمةً منتجةً، لا يعتمدون نهائياً على أعدائهم، في توفير متطلبات حياتهم، وضروريات حياتهم، هم من البشر، والله أودع في كل البشر إمكانية أن يقوموا بهذا الدور الإنتاجي في الحياة: السعي لتوفير متطلبات حياتهم واحتياجاتهم الضرورية، دور الإنسان في ذلك متاح لكل البشر، ليس منحصراً في فئة من البشر في غرب الأرض، أو في زاويةٍ منها، هذا متاحٌ لكل البشر، فكان من واجب المسلمين أن يكونوا هم مهتمين ببناء واقعهم؛ ليكونوا أمةً قوية حتى في الاقتصاد، وفي الجانب العسكري، ولا يكون واقعهم على ما هو عليه حالياً، واقع مؤسف جداً! يتفوق عليهم أعداؤهم عسكرياً تفوقاً كبيراً جداً؛ نتيجةً لتقدمهم في عملية التصنيع، والإنتاج، والوسائل، ويتفوقون عليهم اقتصادياً، حتى بلدان لا تمتلك من الموارد الاقتصادية مثل ما تمتلكه بعض البلدان الإسلامية، ثم نجد تلك البلدان في نقطة الصفر، أو في مستوى هابط جداً، ونجد في مقابل ذلك البلدان الغربية التي هي بموارد أقل في مستوى متقدم وأعلى، هذه مسألة مؤسفة جداً!
كان من واجب المسلمين أن يحرصوا على البناء الحضاري؛ لأن له علاقة بدينهم، بهويتهم، بحريتهم، بكرامتهم، وإلَّا أصبح وسيلةً للضغط عليهم، ثم أن يكون اهتمامهم الحضاري أيضاً ليقدموا النموذج المتميز في الحضارة الإسلامية، الذي يعتمد على هدى الله “سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى”، وهذه مسألة مهمة جداً؛ لأن الحضارة الغربية، بالرغم من تقدمها في عملية الإنتاج والتصنيع، لكن الذي ينقصها هو أمر مهم للغاية، ينقصها القيم، والأخلاق، والمبادئ الإلهية، وابتعادهم عن التعليمات الإلهية، عن شرع الله وتعليماته ونهجه، فكان لما ينتجونه، وكان لتقدمهم العلمي، مع انفصالهم عن مسألة الهدى، أضرار ونتائج سلبية جداً، في واقعهم هم، وتجاه الأمم الأخرى من غيرهم، فهم يوظفون إمكاناتهم التي قد وصلوا إليها، ويستغلون تقدمهم العلمي، بدرجةٍ كبيرة فيما فيه الشر ضد المجتمع البشري، يعني: نسبة معينة لمصلحة المجتمع البشري، ونسبة كبيرة أخرى لما يضر بالمجتمع البشري، فحضارتهم تغيب عنها القيم والأخلاق، ويغيب عنها الرشد، الرشد، وتغيب عنها النظرة الإيجابية تجاه الإنسان ودوره في هذه الحالة.
فنحن نجد أهمية التلازم ما بين العلم والهدى، الحاجة للإنسان:
- يحتاج إلى العلم في دوره في الاستخلاف في الأرض، ليتعرف على أسرار ما أودع الله له في هذه الدنيا من النعم، وكيفية الانتفاع منها، والوسائل التي تساعده على ذلك، إلى غير ذلك.
- وأيضاً يحتاج إلى هدى الله، إلى تعليمات الله “سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى”؛ لتحميه هو، ولتحمي حضارته؛ حتى لا يتحول إنتاجه وتقدمه العلمي إلى وسيلة للإضرار، للشر، للإفساد في الأرض.
فنجد مثلاً على المستوى العسكري، كيف يفعل الغرب بالإمكانات العسكرية؟ وسيلة للبطش والجبروت والظلم، ما نشاهده فيما يحصل في غزة، إمكانات ضخمة وهائلة جداً على المستوى العسكري، من السلاح الأمريكي، من القنابل التي هي ذات قدرة كبيرة في التدمير والفتك، لكن تستخدم لقتل الأبرياء، لقتل الأطفال والنساء، لإبادة شعبٍ مظلوم.
وهكذا الكثير من الوسائل التي يستغلها الغرب، لانفصاله عن الرشد، وعن القيم، وعن الأخلاق، وعن المبادئ الإلهية والتعليمات الإلهية، يستغلها للإضرار بالمجتمعات البشرية، أو للإفساد، لنشر الفساد في الأرض: نشر الفساد اللاأخلاقي، نشر الفساد وتدمير القيم، قيم العفة والطهارة، كم من الوسائل والإمكانات الضخمة والمتطورة تُسَخَّر من أجل ذلك.
فبدون الهدى، يُسَخِّر الإنسان تقدمه العلمي وإمكاناته المادية والحضارية، في نسبةٍ كبيرةٍ منها، تجاه ما يضر ويفسد؛ لكن بالهدى يمكن أن يكون هناك حضارة راقية، راشدة، متميزة، تُستغل فيما فيه منفعة الإنسان، وحماية الناس والدفاع عنهم، وتُستغل فيما فيه الخير لهم، تستغل لمصالحهم. فالسلبيات في الواقع الغربي كبيرة جداً، هناك منافع معينة تحصل للناس، وهناك أضرار ومفاسد كبيرة إلى جنب ذلك؛ فكان من واجب المسلمين أن يبنوا حضارة تقوم على الركيزتين: (العلم، والهدى)، وتقدِّم نموذجاً يمثل أملاً للمجتمع البشري، وقدوة راقية، وهذا أيضاً من الدروس المهمة.
- فيما نلحظه ونستفيده من القصة: نرى أن آدم وحواء بدءا مشوار حياتهما ومهمتهما في الجنة:
يعني: بنعمة الله، برحمته، بفضله، لم يوجدهما ويرمي بهما- مثلاً- إلى صحراء من الصحاري، إلى صحراء قاحلة، ليجد آدم نفسه في وسط الصحراء في ظرفٍ صعب جداً.
بعد خلق آدم، وبعد قصة الاختبار مع الملائكة، وقصة الأسماء، وخلق حواء “عَلَيهمَا السَّلَامُ”، أدخلهم الله تلك الجنة، التي أعدها لهما، فيها متطلبات حياتهما، ليتهيأ لهما أن يعيشا فيها وكل متطلباتهما متوفرة، العيش الرغد، وبرفاهية، وبدون عناء، وهي جنة واسعة، وتتوفر فيها متطلبات حياتهما بما يكفيهما وأكثر من الكفاية، كان المحظور عليهما فقط، أو المنهي، ما نهاهما الله عنه: شجرة واحدة داخل تلك الجنة؛ أمَّا بقية ما في تلك الجنة- وهو الشيء الكثير، والواسع، والمتنوع، والكافي- فأباحه الله لهما، وأنعم عليهما بذلك كله، فقط شجرة واحدة.
فعندما نتأمل في واقعنا وفي التشريع الإلهي، نجد أيضاً أن نسبة ما أحلَّه الله لنا هو: كل الطيِّبات؛ إنما كيف يكون الحصول عليها وفق الطريقة المشروعة التي شرعها الله “سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى” لعباده، والذي حَرَّمَه هو: الخبائث، وهي نسبة محدودة جداً في جانب ما أحلَّه الله، وهو كثيرٌ جداً، فنسبة الطيبات الحلال هي نسبة واسعة جداً، وتتعلق باحتياجات الإنسان بكلها، يعني: في مجال الأكل، في مجال الشرب، في مجال الملابس… في مختلف المجالات، الذي أحلَّه الله ليلبي احتياج الإنسان هو يفي بما يحتاجه الإنسان وأكثر بكثير جداً، والمحرمات هي محدودةٌ جداً، والذي نهانا الله عنه هو شيءٌ محدود، في مقابل ما أحله لنا.
هذا درسٌ مهمٌ جداً، يعني: يبيِّن أن الله رعى المجتمع البشري منذ بداية وجوده، ووسع له في نعمه، وأن الإنسان عندما يتجه إلى ما نهى الله عنه؛ فهو يجني على نفسه، وليس له ما يبرر ذلك، ليس له ما يبرر؛ باعتبار أن الله قد أحلَّ له البديل الواسع جداً، والطيِّب.
- من الدروس المهمة أيضاً، وهو من أهم الدروس: عواقب المخالفة لأمر الله ونهيه في زوال النعم:
وهذه مسألة مهمة جداً، الإنسان يجني على نفسه بمخالفة أمر الله، أو مخالفة نهي الله “سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى”، والعواقب العاجلة في الدنيا قبل الآخرة، هي تتعلق بما أنعم الله به عليه؛ لأن الإنسان هو يعصي الله بوسائل أنعم الله بها عليه، وتجاه نعم أنعم الله بها عليه، فهو يسيء الاستخدام والتعامل مع نعم الله “سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى”؛ ولذلك يسبب لنفسه أن يخسر، أن يخسر فيما أنعم الله به عليه بزوال النعم، وهذه قضية خطيرة على الإنسان، فالذي يحفظ للإنسان النعمة هو: الشكر، والاستقامة العملية هي جزءٌ من الشكر.
والشيطان هو يسعى لشقاء الإنسان، هو يسعى، يسعى لحرمان الإنسان من النعم، الشيطان عندما يراك في أي نعمة من نعم الله، هو يحاول كيف يجعلك تخسر تلك النعمة بنفسك، الشيطان هو عدوٌ للإنسان، لا يرتاح أبداً أن يرى الإنسان في أي نعمة من النعم، عندما تكون في نعم مادية ونعم معنوية، فالشيطان عدوك يغتاظ من ذلك، ويحقد عليك، عداؤه للإنسان عداءٌ شديدٌ جداً؛ وبالتالي هو يخطط ويعمل على كيف تخسر تلك النعمة التي أنت فيها من جهتك أنت، بواسطتك أنت، فيحاول أن يدفعك لفعل ما تخسر به تلك النعمة؛ ولهذا سعى في إخراج آدم وحواء من الجنة، وكان حاقداً عليهما حقداً شديداً، ومغتاظاً مما هما فيه من النعمة، فأي نعمة يكون الإنسان فيها من نعم الله عليه، فالشيطان– وهو عدو للإنسان- يسعى إلى أن يفقده تلك النعمة، وأن يجعله بنفسه يعمل ما يخسر به تلك النعمة.
عندما نلحظ عقوبة ونتيجة تلك المخالفة من جهة آدم وحواء “عَلَيهمَا السَّلَامُ”، في خروجهما من تلك الجنة، التي كانا فيها، وهي ليست جنة الخلد التي في عالم الآخرة، فنتيجةً لتلك المخالفة مع كل ما فيها من الملابسات: أُخرجا من تلك الجنة، فكيف بالمعاصي الفظيعة والخطيرة التي يرتكبها الإنسان، ويتجرأ عليها، وينسى الله “سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى”، كيف لا تحرمه من جنة الخلد، يعني: المخالفة لم تبقِ آدم في جنة فيها نعيم له، فيها متطلبات حياته هو وزوجه حواء، فكيف بجنة الخلد، هل يمكن أن تدخلها وأنت محمَّل بالمعاصي والأوزار والآثام، ومصرٌّ عليها؟! المعاصي خطيرة على الإنسان، إذا كانت المخالفة قد حرمت آدم من جنة يعيش فيها، فكيف لا تكون المعاصي الفظيعة، التي يتجرَّأ فيها الإنسان على الله “سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى”، ويتَّبع هوى نفسه، ويطيع عدوه الشيطان، كيف لا تكون سببًا في حرمانه من الجنة، من جنة الخلد؟! بالأولى.
والشيطان يسعى إلى هذه النقطة، يعني: مثلما حاول أن يجعل آدم يخسر تلك الجنة، هو يحاول أن نخسر جنة الخلد في مستقبلنا الآتي الأبدي في عالم الآخرة، وهذه من الأولويات للشيطان، التي رسمها الشيطان لنفسه، في عداوته لبني آدم: أن يبذل كل جهده، وأن يسعى بكل ما يستطيع، بكل وسائل الخداع والمكر، إلى إغوائهم؛ لكيلا يصلوا إلى جنة الخلد في الآخرة، إلى ذلك النعيم العظيم، والتكريم العظيم، ويكون مصيرهم إلى جهنم، إلى أسوأ مصير، وهو بعدائه الشديد يسعى لذلك؛ لأنه يرى أنَّ أكبر ما يمكن أن يضرَّ به الإنسان هو هذا الضرر: عندما يجعلك تخسر الجنة، ويجعلك تتجه إلى النار؛ لأنك أطعته، فهو يسعى إلى توريط بني آدم لحرمانهم من جنة الخلد في المستقبل الآتي، وتوريطهم ليكونوا من أصحاب السعير، وليس فقط إلى الخروج من نعمة في هذه الدنيا، هو يسعى إلى أن يخرجك من أي نعمةٍ أنت فيها في هذه الدنيا، ولكن يسعى أيضاً لما هو أكثر.
بالنسبة لخطيئة آدم وحواء “عَلَيهمَا السَّلَامُ” هي انتهت بالتوبة، انتهت بالتوبة والإنابة إلى الله، فليست تلك الخطيئة ممتدة على بنيهما وذريتهما، مثل ما يتصوَّر البعض، مثل ما هو ثقافة وفكرة عند بعض البشر: أنَّ خطيئة آدم وحواء “عَلَيهمَا السَّلَامُ” امتدت وبقيت، وصارت لعنة مستمرة على أجيال بني آدم جيلاً بعد جيل. هذا غير صحيح أبداً، هما بادرا بالتوبة إلى الله “سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى” على الفور، وأنابا إلى الله “جلَّ شأنه”، والله تاب عليهما، وتاب على آدم، واجتباه، واصطفاه، وهو من أولياء الله، ومرتبته عظيمة، ومنزلته عالية عند الله “سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى”، فتلك الفكرة خاطئة، خاطئة من جهتين:
- من جهة: أنَّ آدم قد تاب وأناب هو وحواء “عَلَيهمَا السَّلَامُ” إلى الله “جلَّ شأنه”، وانتهت الخطيئة.
- ومن جهة أنَّه لا يتحمَّل أحدٌ وزر أحد، ولو كان هناك صلة قرابة، ليست صلة القرابة أنَّ الابن مثلاً أو الذرية يتحمَّلون ذنب أبيهم، وما فعله أبوهم، أو أمهم، أو أحدٌ يتحمل وزر أحد، الله يقول: {وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى}[فاطر: من الآية18]، فهذه قاعدة أساسية في عدل الله “سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى”، وفي تشريعه لعباده.
الإنسان قد يكون شريكاً في ذنب معين؛ لأنه اشترك فيه بالفعل، أو لأنه أيَّد ذلك الفعل، وشجَّع على ذلك الفعل، واعتبر ذلك الفعل جيداً ومناسباً، وكان مؤيِّداً له بأي شكل من أشكال التأييد، وراضياً عنه، فإذا رضي الإنسان بفعلٍ معين، أو جرمٍ معين، وأيَّده؛ فقد يشترك بهذا: بالتأييد والرضا، أو بالفعل المباشر، والاشتراك المباشر؛ أمَّا بغير ذلك، فلا يتحمَّل الإنسان وزراً.
أيضاً في مسألة التوبة، الله فتح باب التوبة لآدم ولحواء “عَلَيهمَا السَّلَامُ”، ولذريتهما، وهو من أعظم النعم التي أنعم الله بها على البشر: أن فتح لهم باب التوبة والإنابة، والرجوع إلى الله، ومن أهم الأمور أن يكون رجوعاً سريعاً.
- من الدروس المهمة في قول الله “سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى” بعد الأمر بالهبوط: {بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ}[البقرة: من الآية36]، وفي هذا عدة نقاط مهمة جداً، منها:
- لم تنتهِ عداوة الشيطان بعد إخراج آدم وحواء من الجنة:
لم يقل: [الآن أخذت بثأري]؛ لأنه يتعقد عليهما، ويعتبر وكأنهما هما السبب فيما حصل له، وهما لا ذنب لهما فيما وقع فيه، هو تكبر وطغى، ووصل إلى ما وصل إليه بسبب نفسه وكبره، لا ذنب لهما، مع ذلك هو حاقدٌ عليهما أشد الحقد.
بعد خروجهما من الجنة، هو لم يُنهِ عداوته معهما، بل بقي معادياً لهما أشد العداوة، ولم يقل: [خلاص انتهت المعركة]؛ إنما اعتبرها الجولة الأولى، وبقي عداؤه الشديد جداً لذريتهما، فهو مستمرٌ في عدائه، ولم يعتبر عملية الخداع تلك إلَّا الجولة الأولى في الصراع مع آدم، وبني آدم، وعداؤه الشديد مستمرٌ لذريتهما إلى الأخير، وذلك العداء الشديد المستمر يدفعه للتخطيط للإيقاع بذريتهما عبر الأجيال.
- ولا يتغير موقف الشيطان من بني آدم تجاه من ينضم إلى حزبه، ويواليه:
عداؤه الشديد لا يتغير بأي شيء، هو باقٍ على عداوته، حتى تجاه الذين ينضمون إلى حزبه وصفه، ويوالونه، وحتى تجاه الذين يعظِّمونه ويعبدونه، هو مستمرٌ في العداء لكل بني آدم؛ ولهذا يقول الله عنه: {إِنَّمَا يَدْعُو حِزْبَهُ لِيَكُونُوا مِنْ أَصْحَابِ السَّعِيرِ}[فاطر: من الآية6]، وهم حزبه! لا يريد لهم الخير، طالما أنهم من بني آدم، هو يريد لهم أن يصلوا إلى عذاب جهنم، إلى عذاب السعير، فمن ينضم إلى حزبه، وينحرف عن نهج الله، فهو لا يتغير موقفه تجاهه.
- النفس البشرية قابلة للخير وللشر، والشيطان يحاول أن يدخل للإنسان من مداخل الهوى بالخداع؛ فلذلك تعتبر العداوة حافز مهم:
الشيطان هو عدو، وعلينا أن نعاديه؛ لأنه عدوٌ لنا، {بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ}[البقرة: من الآية36]، فإذا كان الإنسان متنبِّهاً، واتَّخذ موقفاً- الموقف الصحيح– اتَّخذ موقفاً عدائياً ضد الشيطان؛ فهذا حافزٌ للإنسان على الاستقامة، وإلَّا فالإنسان حتى لو لم يكن هناك إبليس وشيطان من الجن، هناك قابلية في نفس الإنسان للخير والشر، كان من الممكن للبعض من الناس أن يتَّجهوا في طريق الشر حتى لو لم يكن هناك إبليس ولا شيطان من الجن، ولبرز شياطين من الإنس.
فالإنسان قابلٌ للخير وللشر، لكن يمكن للعداوة أن تكون (العداوة مع الشيطان)، ومعرفة الإنسان أنَّ الشيطان عدوٌ له ويسعى للإيقاع به، يمكن أن تكون حافزاً للاستقامة، وللنجاة، وللموقف الحاسم تجاه طريق الشر وطريق الفساد؛ ولهذا يقول الله: {إِنَّ الشَّيْطَانَ لَكُمْ عَدُوٌّ فَاتَّخِذُوهُ عَدُوًّا}[فاطر: من الآية6]، وهذه مسألة مهمة جداً يستفيد منها الإنسان، لعدائك للشيطان تجتنب طريق الفساد، طريق الشر، طريق الضلال، وتتجه في الطريق الذي فيه نجاتك، فيكون ذلك عوناً لك، وحافزاً لك، وهذه مسألة مفيدة.
- من الدروس المهمة: خطورة الاحتقار، والدرس من السجود لآدم:
في موقف الملائكة ما يشبه حالة الاحتقار للإنسان، عدم توقع أن يكون لائقاً بمهمة الاستخلاف في الأرض، فوصلوا في معالجة هذه الحالة إلى السجود تكريماً لهذا الإنسان، وتكريماً لآدم “عَلَيْهِ السَّلَامُ”، وهذا درسٌ مهم.
هناك نموذج في قصة البشر، مع الفارق الكبير طبعاً ما بين إخوة يوسف والملائكة، هم احتقروه، وذكر الله عنهم قولهم: {إِذْ قَالُوا لَيُوسُفُ وَأَخُوهُ أَحَبُّ إِلَى أَبِينَا مِنَّا وَنَحْنُ عُصْبَةٌ إِنَّ أَبَانَا لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ}[يوسف: الآية8]، واتَّجهوا للمكر والتآمر عليه، لكن في نهاية المطاف قال الله عنهم: {وَخَرُّوا لَهُ سُجَّدًا}[يوسف: من الآية100].
فالاحتقار خطيرٌ جداً، قد يصل بالإنسان إلى تلك الحالة: حالة الخضوع، حالة سجود وضعية، وإن لم تكن سجوداً بالمعنى المعروف للسجود، لكن كوضعية لدى الإنسان يمكن أن يصل إليها؛ ولذلك لا ينبغي للإنسان المسلم أن يحتقر مسلماً آخر أبدًا، يمكن أن تحتقر من كان سيئاً مجرماً؛ لما هو عليه، مفسداً؛ لما هو عليه من إجرام وفساد؛ أمَّا أن تحتقر أي إنسانٍ مسلم، أو أي إنسانةٍ مسلمة، فأنت مخطئٌ.
- الخطر أولاً: من حمل مشاعر الاحتقار والازدراء تجاه أي مؤمن أو مؤمنة، لا يحمل الإنسان في نفسه مشاعر ازدراء واحتقار للآخرين من المؤمنين والمؤمنات أبدًا، هذه حالة خطيرة جداً، ولا تنسجم مع الإيمان، لا تنسجم مع الإيمان أبداً.
- ثم أيضاً على مستوى التعامل، يعني: على مستوى المشاعر، وعلى مستوى التعامل، لا تتعامل مع أحد بطريقةٍ تحتقره فيها، أو بأسلوب احتقار، أو ازدراء، لا ينبغي أبدًا.
- ثم أيضاً على المستوى العملي.
وطبعاً حالة الاحتقار لدى الإنسان، أو مشاعر الاحتقار، أو نظرة الاحتقار للآخرين، قد تكون– فعلاً- لنظرة خاطئة وقاصرة؛ لأن البعض من الناس لديه معيار يقيس به الناس، معيار محدود؛ بينما هناك إيجابيات في واقع الناس، قد يكون هذا الإنسان من جهة في جانب معين عنده نقصٌ فيه، أو لا يتوفر له فيه شيء، لكن هناك جوانب أخرى، هناك إيجابيات أخرى، هناك مواهب أخرى، طاقات أخرى.
في المجال العملي أيضاً، كل إنسان مؤمن يمكن أن يكون له دوره، الحياة هذه ومسؤولياتها الواسعة، الواقع العملي، المسؤوليات الكبرى للأمة المسلمة تستوعب كل الأدوار، وكل الطاقات، وكل الجهود، وإذا لم يكن الإنسان يحسن شيئاً في مجال معين، فهو سيفيد في مجال آخر، إذا لم يكن لديه كفاءة في مجال، لديه كفاءة في مجال آخر، إذا لم يكن يستطيع أن يقدِّم شيئاً في مجال، يستطيع أن ينفع في مجال آخر، والأدوار مترابطة، وكل دورٍ مهمٌ للدور الآخر؛ فلذلك لا يجوز أن يكون هناك حالة احتقار حتى في الواقع العملي.
أيضاً من المهم الحذر من عقدة الاحتقار التي تظهر على الكثير من أبناء الأمة الإسلامية، للأسف الشديد في واقع الأمة الإسلامية هناك عقدة احتقار للأمة بكلها، ولواقعها، وانعدام للأمل تجاه الأمة، وانبهار كبير بالأعداء.
فالبعض– مثلاً- ينبهر بالغرب انبهاراً إلى درجة أنه يحتقر أمته احتقارًا تامًا، وليس له تجاهها أي أمل في إمكانية أن يتغير واقعها، هو ينظر نظرة احتقار، وكأن الحالة بالنسبة- مثلاً- للمسلمين والعرب، أصبحت حالةً في تكوينهم، أنه لا قابلية لهم لتغيير واقعهم، ولا للارتقاء بواقعهم، وهذه حالة خطيرة جدًا، هذه العقدة عند البعض هي تمثل عائقاً عن التحرك بأمل لتغيير الواقع، فهي حالة خطيرة، وهي غير صحيحة أصلاً.
هناك دروس كبيرة من ماضي الأمة وحاضرها في إمكانية التغيير، في بداية حركة الإسلام تحرَّك رسول الله “صَلَوَاتُ اللَّهِ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ”، وكان أولئك القلة المؤمنة الذين انطلقوا معه معظمهم من المستضعفين، مستضعفين في أنفسهم، وفي إمكاناتهم، بسطاء، بعضهم بسطاء، وبإمكانيات ضعيفة جدًا، ومستضعفين في المجتمع، ومع ذلك ارتقى بهم الإسلام إلى أن صاروا في الصدارة على المستوى العالمي.
دروس من التاريخ كثيرة جداً، والدروس في الحاضر أيضاً تبعث على الأمل؛ فعقدة الاحتقار عقدة خطيرة جداً.
هناك أيضاً في هذه النقطة بالذات ما ينبغي أن نؤمن به، وهو: عظمة الإسلام، وأننا عندما ننطلق على أساس هدى الله “سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى”، فهذا يرتقي بنا، والله يتدخل في بناء النفوس؛ ولذلك يمكن أن ترتقي الأمة، وأن يرتقي المستضعفون من أبناء الأمة إلى الصدارة من جديد في واقع المجتمع البشري.
مع التحذير من الاحتقار، أيضاً ينبغي أن نحذر من الغرور:
أن نحذر من الاحتقار، وأن نحذر من الغرور، لا يغتر الإنسان بنفسه، لا تحتقر نفسك، ولا تغتر بنفسك، يكون أملك بالله “سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى” أنك عندما تتحرك على أساس هدى الله، أنت ومن يتحرك من أبناء أمتك على أساس هدى الله “سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى”؛ فإنَّ الله- بفضله، وكرمه، ومعونته، وبالأخذ بالأسباب- سيؤهلك للدور المنوط بك، وهذه مسألة مهمة.
أمَّا الغرور فهو العجب بالنفس، الغرور حالة خطيرة جداً، عندما يغتر الإنسان بنفسه، ويعجب بنفسه، وليس من باب أنه يثق بالله، ويرجو الله “سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى”، ويأخذ بالأسباب: أسباب الارتقاء، وأسباب التغيير. الغرور حالة خطيرة جداً على الإنسان، والاحتقار- كما قلنا- ينبغي أن يكون للمجرمين، السيئين؛ لما هم عليه من إجرام، وفسق، وطغيان.
- الدروس أيضاً فيما يتعلق بنسيان آدم “عَلَيْهِ السَّلَامُ”، وأهمية الاستحضار والتذكر لما نؤمن به من الغيب:
الله “سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى” حذَّر آدم وحواء “عَلَيهمَا السَّلَامُ” من الشيطان، نهاهما عن الأكل من الشجرة، بيَّن لهما أنَّ العاقبة هي الخروج من تلك الجنة. هما نسيا، مثل ما قال الله: {فَنَسِيَ وَلَمْ نَجِدْ لَهُ عَزْمًا}[طه: من الآية115]، مع تغرير الشيطان، وخداعه، ويمينه، وتصويره للمسألة بتصوير آخر تماماً، قدَّم العاقبة والنتيجة بطريقة مختلفة تماماً، الله بيَّن لهما مسبقاً أنَّ النتيجة ستكون هي: الإفلاس والخروج من الجنة، والشيطان قدَّم لهما أنَّ النتيجة ستكون: الملك الذي لا يبلى، والحياة الخالدة؛ فقدَّم نتيجة مختلفة، وهي نتيجة زائفة، ليست حقيقية، هي مجرد خداع، فلم يستحضرا في تلك اللحظة التي أوقع بهما في تجاوز النهي، لم يستحضرا ما كان الله قد نبههم عليه.
فالأشياء التي حذَّرنا الله منها كعواقب ونتائج، علينا أن نستحضر التحذير الإلهي قبل، في الحالات التي هي حالات ضاغطة على الإنسان: إغراءات ضاغطة، أو مخاوف ضاغطة، يستحضر ويتذكر ما يؤمن به مما أخبره الله عنه من تحذير في القرآن الكريم، أن تكون المسألة فيما أخبرنا الله عن نتائج تحصل إذا فرَّط الإنسان، تكون نتيجة أن نحذر وأن نتنبه.
- من الدروس المهمة: أن بداية الوجود البشري ليست مجهولة:
في الثقافة الغربية، وفي النظريات التي روَّجوا لها، حاولوا أن يجعلوا بداية الوجود البشري مسألة مجهولة، وغامضة، وأن يقدِّموا لها نظريات افترضوها وتخيَّلوها، وأتى ضمن ذلك نظرية [التطوُّر] من شكل القرد إلى شكل الإنسان، وهذا يعود إلى كفرهم وجحودهم بالرسالة الإلهية، وتعليمات الله “سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى”.
بداية الوجود البشري بيَّنه الله “سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى” لنا في القرآن الكريم، بيَّنها في كتبه السابقة، كانت ضمن المعارف المتوارثة بين البشر ينقلونها جيلاً بعد جيل، فبداية الوجود البشري هي آدم “عَلَيْهِ السَّلَامُ”، خلقه الله وخلق حواء “عَلَيهمَا السَّلَامُ” منه، خلقها من آدم “عَلَيْهِ السَّلَامُ”، نجهل الكيفية، نجهل التفاصيل كيف كانت، لكن كلاهما عنصرٌ بشري، وتفرَّع منهما البشر، كما قال الله “سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى” في القرآن الكريم: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً}[النساء: من الآية1].
اللوبي اليهودي يسعى إلى تزييف الحقائق عن الوجود البشري، وعن أصل البشر، والوجود الإنساني؛ لهدف خطير جداً، وهو: قتل الشعور بالكرامة عند البشر. اليهود الصهاينة يريدون ألَّا يشعر الإنسان بكرامة أبداً، وأن ينظر إلى أصله بنظرة احتقار، ونظرة دنيئة وسيئة مجرَّدة من التكريم، بدلاً مما ذكره الله لنا عن أصل خلقنا وتكويننا، أنَّ الله خلق هو “سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى” الإنسان ابتداءً من الطين، وليس متفرِّعاً من حيوان آخر، بل من الطين، خلقاً ابتدأه الله “سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى”، وبتكريم، وأسجد له الملائكة، يحاولون أن يقدِّموا صورةً زائفة، هدفهم: قتل الشعور بالكرامة لدى المجتمع البشري؛ ليكون متقبِّلاً للإهانة، متقبِّلاً للاستعباد، متقبِّلاً للتفاهة، متقبِّلاً للفساد والدناءة والضعة؛ لأنهم يريدون أن يذلوه، وأن يستعبدوه.
وأيضاً الأصل الحضاري، الأصل الحضاري أتى مع آدم “عَلَيْهِ السَّلَامُ”، الذي هو أول أنبياء الله أيضاً، أول أنبياء الله، وعلَّمه الله “سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى” الأسماء كلها، وهم- أنبياء الله وأولهم آدم “عَلَيْهِ السَّلَامُ”- ركيزة التاريخ، وبداية الوجود الإنساني.
ولذلك فالتصورات والنظريات التي يقدِّمها الغرب عن الإنسان، وحياته في المراحل الأولى، وعن العصور المتقدِّمة في الزمن، غير دقيقة، فهي مفرطة في نظرتها إلى أنها بدائية جداً، يعني: يريدون أن يصوِّروا المجتمعات البشرية، التي كانت في مقدِّمة الوجود البشري، وفي العصور المتقدِّمة، أنَّ حياتها بدائية جداً، وأشبه بالحيوانات، وأن الحضارة لم تأتِ إلَّا مع الغرب، في نهضته المتأخرة جداً.
وهذا شيء يحاولون أن يقدِّموه كثقافة، كثقافة عامة لدى كل المجتمعات البشرية، وعندما تجد على سبيل المثال مما يفضحهم: كيف يتحدثون عن أمريكا، عن القارة الأمريكية بشكلٍ عام، يتحدثون عنها وكأنها لم تكتشف إلَّا بعد غزوهم لها، وقتلهم لشعوبها، وسيطرتهم عليها، وكأن بداية التاريخ هناك من تلك المرحلة فقط.
ثم عندما يتحدثون عن أهلها وسكانها، الذين تعرَّضوا للإبادة من جهتهم، يتحدثون عنهم بشكل مسيء، وكأنهم كانوا بدائيين جداً، فيما يتَّضح من خلال الآثار هناك المنتشرة في مناطق من القارة الأمريكية، يتَّضح معالم بعضها لها عشرة آلاف سنة، وهي معالم متقنة وحضارية، وتنبئ عن حضارة قديمة هناك.
فالوجود البشري ليس كما يصوِّرونه: [عاش لمراحل طويلة جداً في حالة بدائية أشبه بالحيوانات]، الإنسان تميز منذ بداية وجوده، بما منحه الله “سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى”، منذ آدم “عَلَيْهِ السَّلَامُ”، وبعد ذلك، يعني: في عصور متقدِّمة كانت هناك حضارات كبيرة، حضارات متطورة، بل إنَّ في التاريخ حضارة ربما لم نصل إلى مستواها في هذا العصر:
- حضارة نبي الله سليمان “عَلَيْهِ السَّلَامُ”، وملكه، وما مكَّنه الله فيه.
- حضارة ذو القرنين، حضارة كبيرة جداً.
وهكذا يجب أن تكون نظرتنا إلى المراحل تلك نظرة منصفة، ربما في بعض المجتمعات المنغلقة، استمرت الحالة عندها كحالة بدائية، أو كانت تحوَّلت الحالة عندها إلى حالة بدائية، لكن ليست هذه السمة التي ننظر من خلالها، ونطبع بها نظرتنا إلى كل مراحل التاريخ الماضية.
نَسْألُ اللَّهَ “سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى” أَنْ يُوَفِّقَنَا وَإِيَّاكُم لِمَا يُرْضِيهِ عَنَّا، وَأَنْ يَرْحَمَ شُهَدَاءَنَا الأَبْرَار، وَأَنْ يَشْفِيَ جَرْحَانَا، وَأَنْ يُفَرِّج عَنْ أَسرَانَا، وَأَنْ يَنْصُرَنَا بِنَصْرِه، إِنَّهُ سَمِيعُ الدُّعَاء.
وَالسَّـلَامُ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَةُ اللهِ وَبَرَكَاتُهُ؛؛؛