نص : الدرس الأول من سلسلة دروس عهد الإمام علي عليه السلام لمالك الأشتر 1443هـ

السيد / عبد الملك بدر الدين الحوثي

 

أَعُـوْذُ بِاللهِ مِنْ الشَّيْطَان الرَّجِيْمِ

بِـسْـــمِ اللهِ الرَّحْـمَـنِ الرَّحِـيْـمِ

الحمدُ لله رَبِّ العالمين، وأَشهَـدُ أن لا إلهَ إلَّا اللهُ الملكُ الحقُّ المُبين، وأشهَدُ أنَّ سيدَنا مُحَمَّــداً عبدُهُ ورَسُــوْلُه خاتمُ النبيين.

اللّهم صَلِّ على مُحَمَّــدٍ وعلى آلِ مُحَمَّــد، وبارِكْ على مُحَمَّــدٍ وعلى آلِ مُحَمَّــد، كما صَلَّيْتَ وبارَكْتَ على إبراهيمَ وعلى آلِ إبراهيمَ إنك حميدٌ مجيدٌ، وارضَ اللهم برضاك عن أصحابه الأخيار المنتجبين، وعن سائر عبادك الصالحين والمجاهدين.

أيُّها الإخوة والأخوات

السَّـلَامُ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَةُ اللهِ وَبَرَكَاتُهُ؛؛؛

نبارك لكل أمتنا الإسلامية بمناسبة دخول هذا الشهر المبارك: شهر ذي الحجة الحرام، الذي هو من الأشهر المباركة، وفيه تؤدَّى فريضةٌ من فرائض الله الكبرى، وركنٌ من أركان الإسلام، هي فريضة الحج، وأيامه العشر في بعض الروايات أنها هي العشر المقصودة بقوله “سبحانه وتعالى” مقسماً في سورة الفجر عندما قال “جلَّ شأنه”: {وَالْفَجْرِ (1) وَلَيَالٍ عَشْرٍ}[الفجر: 1-2]، في بعض الروايات أنها العشر الأولى من شهر ذي الحجة.

وفيه أيضاً في العاشر منه الذكرى العظيمة والمهمة لنبيين من أنبياء الله، من صفوة أنبياء الله، هما: خليله إبراهيم “عليه السلام”، وابنه نبي الله إسماعيل “عليه السلام”، في القصة التاريخية التي تتضمن درساً وعبرةً عظيمةً وكبيرةً ومهمةً لكل المؤمنين، في التسليم لأمر الله “سبحانه وتعالى”، والاستجابة العملية لله “سبحانه وتعالى”، في الاختبار الكبير الذي جرى لهما في قصة الذبح المعروفة.

وفيه أيضاً كانت حجة الوداع، التي ودَّع النبي “صلوات الله عليه وعلى آله” فيها أمته، وقدَّم فيها تعليماتٍ مهمةٍ جداً لأمته، وفي عودته منها بلَّغ ما أمره الله به من إعلان ولاية أمير المؤمنين عليٍّ “عليه السلام”، وفي ذلك أيضاً كانت النعمة الكبرى في إتمام نعمة الله على عباده في دينهم بكمال الدين، وتمام النعمة.

فهي مناسباتٌ متنوعة، وعظيمة، ومتعددة، وذات أهمية كبيرة للأمة، ولمستقبلها إلى قيام الساعة، كل هذه المناسبات في هذا الشهر المبارك.

وفي إطار هذه المناسبات، وأجواء هذه البركات، رأينا أن نقدِّم دروساً متعلِّقةً بإدارة شؤون الأمة في الإسلام، وفق هدي الله “سبحانه وتعالى” وتوجيهاته وتعليماته، بالاستفادة من عهد الإمام عليٍّ “عليه السلام” لمالكٍ الأشتر حين ولَّاه مصر؛ باعتبار هذا العهد وثيقة مهمة، قدَّمت المهام، والمسؤوليات، والضوابط، والمعايير، لإدارة شؤون الأمة في كل مواقع المسؤولية، وفي كل وظائف الدولة، وفي كل المواقع التي يكون الإنسان فيها مسؤولاً عن أي مجالٍ من المجالات، وبأي مستوى من المستويات، كمسؤول وكموظف في الدولة، وفيما يرتبط بذلك من معايير، ما يرتبط بذلك من معايير وضوابط وفق أمر الله “سبحانه وتعالى” وتوجيهاته.

هذه المسألة لها أهميةٌ كبيرةٌ في الدين الإلهي، ولها علاقةٌ أساسيةٌ بإيماننا بالله “سبحانه وتعالى”؛ لأن مما نؤمن به في عقيدتنا الإيمانية بالله “سبحانه وتعالى”: أنه القائم بالقسط، كما قال “جلَّ شأنه” في كتابه المبارك في القرآن الكريم: {شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ وَالْمَلَائِكَةُ وَأُولُو الْعِلْمِ}[آل عمران: من الآية18]، يعني: شهدوا بذلك، شهدوا لله بأنه الواحد الأحد، لا شريك له في الربوبية والألوهية، {شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ وَالْمَلَائِكَةُ وَأُولُو الْعِلْمِ قَائِمًا بِالْقِسْطِ}[آل عمران: من الآية18]، فهو “سبحانه وتعالى” الواحد الذي لا شريك له، ولا إله إلَّا هو، وهو القائم بالقسط، قائمٌ بالقسط في تدبيره لأمور خلقه وعباده، قائمٌ بالقسط في تشريعه لعباده، قائمٌ بالقسط في هدايته لعباده، في التدبير، والتشريع، والهداية، وما يتصل بذلك، هو القائم بالقسط، {قَائِمًا بِالْقِسْطِ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ}[آل عمران: من الآية18]، وتفيد الاستمرار على ذلك على الدوام “سبحانه وتعالى”، هو القائم بالقسط في كل مراحل تاريخ البشرية، وما قبل ذلك، وما بعد ذلك، هو العدل “سبحانه وتعالى”، الذي لا يجور في شيءٍ من أحكامه، ولا تشريعاته، ولا هديه.

والقسط مفهومٌ مهم، من أكبر وأهم مصاديقه العدل، وهو يشمل أيضاً إنزال كل شيءٍ في مكانه، تدبير الله “سبحانه وتعالى”، وتشريعه، وهدايته، إدارته لشؤون خلقه بمقتضى الحق، والعدل، والحكمة، كل ذلك يتطابق تماماً مع العدل، والحكمة، والخير، والحق، والصالح، والمصلحة الحقيقية، والصلاح الحقيقي، هذا التطابق التام مع مقتضى ذلك يعتبر قسطاً.

فهذا يعود إلى إيماننا بالله “سبحانه وتعالى، أن نؤمن بأنه القائم بالقسط، لا يهمل عباده، لا يتركهم من دون أن يرسم لهم وأن يشرِّع لهم في شؤون حياتهم ما يتحقق به العدل في واقع حياتهم، إن التزموا به، إن ساروا عليه، إن تحرَّكوا على أساسه.

ولذلك يقول في القرآن الكريم عن رسالته “سبحانه وتعالى“: {لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنْزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ وَأَنْزَلْنَا الْحَدِيدَ فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ وَرُسُلَهُ بِالْغَيْبِ إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ}[الحديد: الآية25]، فرسالة الله “سبحانه وتعالى” مع كل رسله، وإلى كل أنبيائه، كان من أهم غاياتها وأهدافها الرئيسية للبشر (للناس): أن تساعدهم، وأن تهديهم، وأن تبصِّرهم، وتقدِّم لهم ما ينهضون به بمسؤولياتهم الكبيرة في إقامة القسط؛ لأن إقامة القسط مسؤولية جماعية على الناس، وعلى المؤمنين، هي مسؤولية لا تستقر حياة الناس ولا تصلح حياة الناس إلَّا بإقامتها، البديل عنها هو الظلم، هو الجور، هو انعدام العدل؛ وبالتالي اختلال شؤون الحياة في كل شيء، فالله “سبحانه وتعالى” قدَّم لعباده في منهجه، عندما قال: {وَأَنْزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ}، قدَّم فيه وبإشرافٍ وإقامةٍ من الرسل أنفسهم، هم أول من يسعون وفي بداية من يسعون لإقامة القسط من خلال كتب الله، وتعليماته، وهديه، وما أرساه من دعائم العدل في ذلك لعباده.

ثم إضافةً إلى ذلك يأتي مع منهج الله الحق، الذي تتحقق من خلاله العدالة؛ لأن العدل يحتاج إلى منهج يُعتَمد عليه، وإلى آليات صحيحة يُعتَمد عليها لتنفيذ ذلك المنهج الحق، الذي يحقق العدالة للناس، مع ذلك بقية المتطلبات الأساسية، عندما قال: {وَأَنْزَلْنَا الْحَدِيدَ فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ}؛ لأنه لابدَّ أيضاً من أن يكون هناك قوة تساند إقامة الحق، وتساعد في التصدي للطغاة والظالمين والمجرمين، هذه مسألة مهمة، بدون منهج الله الحق لا يمكن أن تتحقق العدالة الحقيقية في واقع الناس.

نحن في هذا الزمن نشاهد ونعيش في واقعنا ما تعانيه البشرية من الظلم، الأرض ملئت ظلماً وجوراً، ونشاهد كيف أنَّ قوى الطاغوت المستكبرة في العالم، وعلى رأسها أمريكا، ومعها إسرائيل، ومن معهم من أعوانهم وأنصارهم، بالرغم من أنهم يقدِّمون آليات معينة، ويعتمدون على أساليب معينة، يزعمون أنها تحقق للبشرية العدالة، إلَّا أننا رأينا كيف أنهم بكل ما معهم من نظريات، وآراء، وآليات، وأساليب، وطرق، إنما ملأوا الدنيا بالجور والظلم، إنما اضطهدوا الشعوب، وأنَّ آلياتهم، ونظمهم، وقوانينهم، وأساليبهم، ووسائلهم، لا يمكن الاستناد إليها لتحقيق العدل، ولإقامة العدل، بل ربما تكون هي- بنفسها- وسيلة من سائل الظلم، وطريقة من طرق الطغيان والإجرام.

نشاهد- مثلاً- في فلسطين، في فلسطين ماذا يحصل؟ تصدر قوانين باسم (الكنسيت الإسرائيلي)، لمصادرة ممتلكات الشعب الفلسطيني، لنهب ممتلكاته، لنهب أراضيه، لتدمير منازل الفلسطينيين، لاغتصاب حقوقهم، وباسم قانون، الآلية: آلية جهة معينة محددة هي (الكنسيت)، والاسم هو: قانون، والطريقة: تصويت بالأغلبية، وينتهي الأمر.

أو مثلاً في القضاء الإسرائيلي، قضاء! والعنوان عنوان قضاء، والمسمى حُكْم صَدَر من القضاء، آليات تقدَّم بأنها الآليات التي تكفي لأن تُتخذ بها قرارات، وسياسات، ويبنى على أساسها فيما يعمله الناس مسمى قانون وفق آليات معينة، وبطرق معينة، ولكنه قد يكون وسيلةً- بنفسه- للظلم، وسيلةً- بنفسه- للطغيان، وسيلةً- بنفسه- لارتكاب الجرم بحق الناس.

أمَّا منهج الله الحق فهو يشكِّل الضمانة، الضمانة التي إن أخذ الناس بها تحقق العدل، ولا يحصل الظلم إلَّا بمخالفتها، إلَّا بالابتعاد عنها، ولأهمية هذه المسألة كانت من المسؤوليات الأساسية، والالتزامات الإيمانية في دين الله على عباد الله المؤمنين، فالله “سبحانه وتعالى” قال في القرآن الكريم: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَاءَ لِلَّهِ وَلَوْ عَلَى أَنْفُسِكُمْ أَوِ الْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ}[النساء: من الآية135]، فإقامة القسط في الحياة، في كل واقع الحياة، في كل مواقع المسؤولية، ((كلكم راعٍ، وكلكم مسؤولٌ عن رعيته))، الجميع في الواقع الإيماني من ضمن التزاماتهم الإيمانية الأساسية هو إقامة القسط، والتزام العدل، حتى على مستوى النفس، أن تنصف من نفسك، أن تقبل لإقامة القسط والعدل حتى على نفسك، {أَوِ الْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ}، على الغني والفقير، {إِنْ يَكُنْ غَنِيًّا أَوْ فَقِيرًا فَاللَّهُ أَوْلَى بِهِمَا}[النساء: من الآية135]، في كل الحالات، في الأمور الكبيرة والأمور الصغيرة، هي مسألة ذات أهمية كبيرة؛ لأن من أكبر ما يعاني منه المجتمع البشري بشكلٍ عام، والمسلمون بشكلٍ أخص، هو المعاناة من الظلم، من انتشار الظلم، انتشار الظلم من الحكومات، انتشار الظلم من الدول، انتشار الظلم من المسؤولين، انتشار الظلم في واقع الناس أنفسهم، القوي يظلم الضعيف، حتى في الواقع الاجتماعي يتظالم الناس فيما بينهم، حتى أحياناً على مستوى الأسر، في داخل الأسرة قد يكون هناك ظلم من القوي على الضعيف، من الرجل أحياناً على المرأة والعكس، حالات كثيرة ينتشر فيها الظلم، فإقامة القسط هو مسؤولية مهمة، وفي واقع الدولة، في نظام الإسلام العظيم، في شريعة الله، في منهج الله الحق، تعتبر من أهم مسؤولياتها والدور الرئيسي لها هو إقامة القسط، وفي أهم مصاديق القسط العدل بشكلٍ عام.

فتضمَّنت وثيقة عهد الإمام عليٍّ “عليه السلام” لمالكٍ الأشتر، تضمَّنت رؤيةً قرآنيةً تعبِّر عن منهج الله الحق، فيما يتعلق بإقامة القسط، فيما يتعلق بالسياسات، والتوجيهات، والضوابط، والمعايير، التي ينبغي أن يلتزم بها الإنسان في أي موقعٍ كان من مواقع المسؤولية، في أي وظيفةٍ كان من الوظائف في الدولة، وإن شاء الله نتحدث على ضوئها بما يفيدنا، ويفيد الإخوة المسؤولين، والمعنيين… والجميع بحاجة إلى أن يعرف كيف هي الرؤية التي تعبِّر عن القرآن الكريم في ذلك.

الإمام عليٌّ “عليه السلام” هو كما قال عنه رسول الله “صلوات الله عليه وعلى آله“: ((عليٌّ مع القرآن، والقرآن مع عليّ))، الإمام عليٌّ “عليه السلام” قدَّم من خلال القرآن الكريم، من خلال هداية الله “سبحانه وتعالى”، هذا المحتوى في هذه الوثيقة المهمة، وهو مفيدٌ جداً.

قال “عليه السلام“:

((بِـسْـــمِ اللهِ الرَّحْـمَـنِ الرَّحِـيْـمِ

هذَا مَا أَمَرَ بِهِ عَبْدُ اللهِ عَلِيٌ أَميِرُ الْمُؤْمِنِينَ، مَالِكَ بْنَ الْحَارِثِ الاْشْتَرَ، فِي عَهْدِهِ إِلَيْهِ، حِينَ وَلَّاهُ مِصْرَ))

الإمام عليٌّ “عليه السلام عندما ولَّى مالك بن الحارث الأشتر على مصر، في إطار دولة الإسلام آنذاك، كتب له هذا العهد؛ ليكون دستوراً يعتمد عليه في إدارته لشؤون ذلك الإقليم من أقاليم العالم الإسلامي.

وعندما نتأمل في هذه الافتتاحية، نجد أولاً أنه افتتحها بقوله:

((بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ))

وهذا– للأسف- ما كان قد أزيح في بعض- وحتى في هذه المراحل- ما أزيح في كثيرٍ من بلدان العالم الإسلامي، وأصبحوا يقلِّدون الغرب في أن يصدروا أي قرار من قراراتهم، وأي وثيقة رسمية بعبارة: [بسم الشعب]، بدلاً من قولهم: ((بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ)).

((بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ)) هي التي كان حتى أنبياء الله يصدِّرون كتبهم ووثائقهم بها، حتى فيما ذكره الله عن نبيه سليمان “عليه السلام” في كتابه ورسالته إلى سبأ: {إِنَّهُ مِنْ سُلَيْمَانَ وَإِنَّهُ بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ}[النمل: الآية30]، وهي كذلك العبارة، أو الجملة المهمة، التي نحن كمسلمين مأمورون أن نصدِّر بها كل وثائقنا، وأن نفتتح بها كل أعمالنا، هذه مسألة مهمة جداً؛ لأننا ننطلق في شؤون حياتنا من منطلق الإيمان بالله، والاستجابة لله، والطاعة لله “سبحانه وتعالى”، ووفق توجيهات الله، وأوامر الله “سبحانه وتعالى”، وهذا يشمل كل شؤون حياتنا.

منهج الله الحق ليس منهجاً يختص فقط بالتعليمات الروحية لأداء الصلاة، والعبادة في المساجد، بل هو نظامٌ لكل شؤون حياتنا، ويتعلق بجانب المعاملات في حياتنا الكثير من التشريعات الإلهية، والتوجيهات، والتعليمات من الله “سبحانه وتعالى” القائم بالقسط في عباده، وفيما شرعه لهم.

فأول ما ينبغي أن نلتفت إليه هو هذا؛ حتى لا نقلِّد أعداءنا من الكافرين، الذين قرروا أن يتجهوا في حياتهم بعيداً بشكلٍ تام وبشكلٍ منفصلٍ كلياً عن تعليمات الله “سبحانه وتعالى” وتوجيهاته؛ لأنهم لا يؤمنون بمنهج الله الحق، فلا ينبغي أبداً أن يُقَلَّدوا، أن يتَّبعوا، أن يتجه الناس وفق طريقتهم التي يعتمدون فيها على فصل شؤون حياتهم عن تعليمات الله، وعن توجيهات الله، وعن تشريعات الله “سبحانه وتعالى”.

ثم بعد البسملة قوله “عليه السلام“:

((هَذَا مَا أَمَرَ بِهِ عَبْدُ اللَّهِ عَلِيٌّ أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ))

عادةً تأتي التوصيفات لمن هم في موقع ولاية الأمر، من الرؤساء، والملوك، والزعماء، بمجموعة من الألقاب، التي تتضمن التضخيم لهم، والثناء عليهم، والتمجيد لهم، والإشادة بهم، والتعبير عن علو مقامهم، وعن عظيم منزلتهم ومكانتهم، وعن طبيعة المسؤولية التي هم فيها، فيقولون: [صاحب الفخامة، والسمو، والمعالي…]، وغير ذلك من الألقاب والأسماء.

نجد هنا أنه أتى بهذا الوصف المهم: ((عَبْدُ اللَّهِ))، أمير المؤمنين “عليه السلام” يصف نفسه حتى قبل صفة المسؤولية، الصفة التي تعبِّر عن موقعه في المسؤولية، الصفة الرسمية كانت هي عبارة: ((أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ))، هذه عبارة تعبِّر عن الصفة الرسمية له في موقعه في إدارة شؤون الأمة، في مسؤوليته العليا في إدارة شؤون الأمة، ولكن قبل ذلك أتى بهذا الوصف: ((عَبْدُ اللَّهِ))، وهذه مسألة مهمة، ودرسٌ كبير؛ لأن الإنسان في أي موقعٍ من مواقع المسؤولية، حتى وإن كان يدير شؤون الأمة في أعلى مستويات المسؤولية، في أعلى الهرم في إدارة شؤون الأمة، يجب أن ينطلق من منطلق أنه عبدٌ لله “سبحانه وتعالى”، وأن يؤدِّي وظيفته كوظيفة عبودية، وهذا يعطينا نظرة صحيحة عن المنصب، عن السلطة، عن موقع الإنسان في إدارة شؤون الأمة، في أي مستوى كان هذا الموقع؛ لأن الكثير من الناس ينظرون إلى المنصب، وإلى السلطة، أنها موقع ليحظى الإنسان من خلاله بالامتيازات المادية، والصلاحيات، وأنه موقع يعتبر مغنماً، ومكسباً شخصياً، يطمح الإنسان في الوصول إليه؛ ليحقق لنفسه طموحاته، وآماله، ورغباته المادية والمعنوية.

كثيرٌ من الناس ينظر إلى المنصب بهذه النظرة، ولهذا الكثير من الناس يطمعون في المناصب والوظائف؛ لأنهم ينظرون إليها كمكاسب شخصية، ومن منظار المصلحة الشخصية، وأنها مواقع للاستعلاء، وأنها مواقع يصبح الإنسان فيها صاحب أهمية كبيرة، وصاحب نفوذ، وصاحب سلطة وصلاحية، يستطيع أن يستغلها ويوظِّفها من أجل مصالحه الشخصية، وحتى على المستوى المعنوي، أنَّ الإنسان يرى أنه أصبح له أهمية؛ لأنه أصبح له منصباً معيناً، أو وظيفة معينة، أو أصبح في موقعٍ من مواقع المسؤولية، فهو يرى نفسه أنه ذو أهمية في الناس، وله نفوذه، وله تأثيره، ينظر إليها من هذا المنظار، وينظر إليها أيضاً باعتبارها كذلك مكسباً يمكن أن يستغله لتحقيق مصالح مادية، ومكاسب مادية، وهي النظرة الخاطئة التي ترسَّخت لدى الكثير من الناس، لدى أغلب الناس، ينظرون إليها على هذا الأساس الخاطئ، وبهذا المفهوم الخاطئ، وبهذه النظرة الخاطئة.

ففي الإسلام، في منهج الإسلام، وفي تربية الإسلام، يرسِّخ الإسلام لدينا النظرة إلى المنصب، إلى المسؤولية العامة، إلى الموقع الذي نكون فيه في موقع مسؤولية لإدارة شؤون الناس، في أي مستوى من المستويات، أنه وظيفة عبودية، عليك فيها التزامات إيمانية، تؤدِّي فيها ما تؤديه كقربة إلى الله “سبحانه وتعالى”، وكعمل صالح، عليك فيه التزامات بضوابط معينة، بمعايير معينة، وأن تكون أيضاً ملتزماً فيما يتعلق بالحلال، والحرام… وغير ذلك.

وهذا مهم على المستوى النفسي والتربوي، على المستوى النفسي والتربوي، أنَّ الإنسان في موقع المسؤولية مهما كان منصبه: رئيس، أو ملك، أو وزير، أو مدير… أو في أي موقع من مواقع المسؤولية، في أي مستوى من مستويات المسؤولية، يجب أن يرسِّخ في نفسه على الدوام أنه عبد، عبدٌ لله “سبحانه وتعالى”، عليه أن يخضع لله، أن يطيع الله، أن يلتزم بأمر الله “سبحانه وتعالى”، عليه- مثلما سيأتي أيضاً من التزامات إيمانية- أن يتجه دائماً نحو الله “سبحانه وتعالى” في السعي لرضوان الله “سبحانه وتعالى”.

((هَذَا مَا أَمَرَ بِهِ عَبْدُ اللَّهِ عَلِيٌّ أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ، مَالِكَ بْنَ الْحَارِثِ الْأَشْتَرَ))

يعني: أمر به مالك، ما تضمنه هذا العهد في عهده إليه حين ولَّاه مصر.

ثم بعد ذلك حدد له المهام الأساسية، في أربع مهام تشمل كل التفاصيل التي تتعلق بالمهام الأساسية في الدولة في النظام الإسلامي:

((حِينَ وَلَّاهُ مِصْرَ: جِبَايَةَ خَرَاجِهَا، وَجِهَادَ عَدُوِّهَا، وَاسْتِصْلَاحَ أَهْلِهَا، وَعِمَارَةَ بِلَادِهَا))

أول عنوان هو قوله:

((جِبَايَةَ خَرَاجِهَا))

يعني: إدارة الموارد المالية، التي سَيُعتَمد عليها في التمويل، لإدارة شؤون الأمة، فيما يحقق المصالح العامة للشعب، للأمة، للناس، وعلى أساسٍ من الحق والعدل، على أساسٍ من القسط، وهذه مسألة مهمة جداً، معروفٌ في كل الدنيا بمختلف نظمها، وقوانينها، وديانات شعوبها، وأفكارهم، أنه لابدَّ من أن يكون هناك تمويل لإدارة شؤون الناس، ونظم شؤونهم، لابدَّ من أن يكون هناك تمويل، وهناك سياسات لمسألة التحصيل المالي، ونُظُم لمسألة جمع المال والتحصيل المالي، وعادةً ما تسن في مختلف البلدان والنظم والأنظمة تسن قوانين معينة، أو تعتمد رؤية معينة لذلك.

الإسلام له رؤيته، الإسلام له منهجيته في إدارة الموارد المالية، فيما يحقق أهدافاً عادلة، أهدافاً لمصلحة المجتمع، أهدافاً عظيمة ومقدَّسة، تنسجم مع مبادئ الأمة الإسلامية وانتمائها للإسلام، وانتمائها للدين الإلهي الحق، الذي يحقق القسط في واقع حياة الناس، فهي تعالج مشكلة الفوارق الاجتماعية، من خلال تخصيص جزءٍ من المال، لرعاية الفقراء، لمساعدة المساكين، لإعانة الغارمين… وما شاكل ذلك.

وأيضاً جزء آخر من المال يتجه لتمويل المهام الأساسية، لرعاية الناس في شأنهم العام، لحماية الأمة، لتنفيذ بقية المهام، التي قال عنها: ((وَجِهَادَ عَدُوِّهَا))، هذا يحتاج إلى تمويل، والأمة بحاجة إلى الحماية من أعدائها، الأمة لها أعداء يستهدفونها في كل شيء، يسعون إلى السيطرة عليها، يسعون إلى الاستعباد لها، إلى الاحتلال لأوطانها، إلى السيطرة على ثرواتها، إلى القهر لها، وإذلالها، للاستهداف لها في دينها ودنياها، فالأمة تحتاج إلى حماية، ولكي يتحقق هذا الهدف، يحتاج إلى تمويل، يحتاج إلى مال.

أيضاً في قوله: ((وَاسْتِصْلَاحَ أَهْلِهَا))، وقوله((وَعِمَارَةَ بِلَادِهَا))، كل هذه المهام تحتاج إلى تمويل، وستأتي التفاصيل المتعلِّقة بجباية الخراج، أو ما يقوم مقام هذا التعبير فيما يعنيه إدارة الموارد المالية لتحقيق الأهداف المهمة لصالح الأمة، وإقامة العدل في واقعها، ورعاية حقوق المستضعفين فيها.

فجباية الخراج واحدٌ من المهام الأساسية كي يكون على أساسٍ صحيح، ينسجم مع مبادئ الأمة، وعلى أساس القسط والعدل، وكذلك في حمايته فيما بعد عملية التحصيل؛ لأنه سيأتي التفاصيل عن عملية التحصيل المالي، وكيف تدار الموارد المالية على أساسٍ صحيح، وكيف تكون حمايتها فيما بعد؛ لكي تسخَّر، ولكي توظَّف، ولكي تكون عملية صرفها ضمن ما شرعه الله “سبحانه وتعالى” فيما يخدم المجتمع، ويحقق مصالحه، ويحمي الأمة.

قوله “عليه السلام“:

((وَجِهَادَ عَدُوِّهَا))

هذا من المهام الأساسية للدولة في النظام الإسلامي: جهاد العدو، وحماية المجتمع المسلم من كل أشكال الاستهداف من جانب الأعداء؛ لأن الأعداء يستهدفون الأمة: عسكرياً، وأمنياً، واقتصادياً، وثقافياً، وفكرياً… بكل أشكال الاستهداف، فلابدَّ من أن يكون هناك عمل كبير ضمن المسؤوليات والاهتمامات الكبرى والأساسية لحماية الأمة، لبناء واقعها؛ لكي تكون أمةً قويةً، عزيزةً، تتمتع بالمنعة أمام أعدائها، لا تكون أمةً مستضعفةً، ذليلةً، يطمع فيها أعداؤها، لا تكون فريسةً سهلةً، يسعى أعداؤها لاستغلالها، وللافتراس لها، يكون واقعها بنفسه من خلال بنائها على المستوى العسكري، على مستوى القدرات العسكرية، والإمكانات العسكرية، وعلى مستوى الروح المعنوية، وعلى مستوى- كذلك- القوة العسكرية فيما يتعلق بالجيش، فيما يتعلق بالتعبئة العامة… فيما يتعلق بكثير من التفاصيل ذات العلاقة التي سيأتي الحديث عنها بشكلٍ تفصيلي.

ما يتعلق أيضاً بحمايتها أمنياً، الأمة تحتاج إلى الحماية الأمنية، العدو يستهدفها بالاغتيالات، بالتفجيرات، يستهدفها بكل وسائل الاستهداف، في زمننا هذا تطورت وسائل الاستهداف، بأكثر من أي زمنٍ مضى، فالأمة بحاجة إلى الحماية على المستوى الأمني.

بحاجة إلى الحماية على المستوى الثقافي والفكري والإعلامي؛ لأنها مستهدفة في ذلك بالحرب الناعمة، مستهدفة، يسعى العدو إلى إضلالها، يسعى العدو إلى إفسادها، يسعى العدو إلى تدمير قيمها المعنوية؛ حتى يتمكَّن من السيطرة عليها؛ لأن العدو يعرف أنَّ من أهم عوامل القوة والمنعة هو: العامل المعنوي، إذا كانت الأمة تحمل الإيمان، تحمل القيم العظيمة، تحمل المبادئ العظيمة التي تحصِّنها من أعدائها، تجعلها على المستوى المعنوي والعملي في مستوى أن تتحرك لمواجهة التحديات والأخطار، والتصدي للأعداء مهما كانت التضحيات، مهما كانت المخاوف، مهما كانت الصعوبات، فالعدو يستهدفها.

فالأمة تحتاج إلى عمل واسع تحت عنوان الجهاد، الجهاد في سبيل الله “سبحانه وتعالى” هو أساساً لحماية الأمة؛ لأن الجهاد ليس للدفاع عن الله، هو الغني، هو القوي العزيز، ولكنه وسيلة لدفع الشر، لدفع الفساد، لدفع الطغاة والمجرمين، لحماية عباد الله المستضعفين، ((وَجِهَادَ عَدُوِّهَا)).

((وَاسْتِصْلَاحَ أَهْلِهَا))

من المهام الأساسية التي هي متعلِّقة بأداء الدولة في النظام الإسلامي: العمل على إصلاح المجتمع؛ ليكون المجتمع مجتمعاً صالحاً، هذه من المهام الرئيسية، أن يكون هناك عناية كبيرة بالمجتمع، كباراً وصغاراً؛ لكي يكون مجتمعاً صالحاً، مجتمعاً من خلال التربية الإيمانية، من خلال التعليم النافع الصحيح، من خلال العمل الإعلامي، من خلال البرامج العملية الواسعة، يكون مجتمعاً صالحاً، تربى على الإيمان، على القيم الفضلى، والقيم العظيمة، على مكارم الأخلاق، على الاستقامة السلوكية والعملية، هذا ما لابدَّ منه لتصلح حياة المجتمع، لكي يكون مجتمعاً بعيداً عن الرذائل، عن الجرائم، عن المفاسد، التي تشكِّل خطراً عليه، وعلى حياته، وعلى استقراره، وعلى نظامه العام، فلابدَّ من أن يكون هناك اهتمامات واسعة:

  • تتعلقبالتربية الإيمانية.
  • تتعلقبالتعليم النافع الصحيح.
  • تتعلقبالبرامج العملية.
  • تتعلقبالنظام نفسه، الذي يكون نظاماً يساعد على صلاح المجتمع، يتصدى لكل أشكال الفساد، لكل أشكال المنكر، لكل أشكال المؤامرات، التي تستهدف المجتمع لإفساده، أو لتضليله، أو لنشر الرذيلة فيه، أو لنشر الجرائم فيه.

والمجتمع أيضاً بحاجة إلى البناء والتأهيل، الإسلام يأخذ بعين الاعتبار العناية بالإنسان لبنائه وتأهيله، ليسمو، لتتكامل له انسانيته، ليؤدِّي دوره في الحياة كمستخلفٍ لله في الأرض على أرقى مستوى، وهذا التأهيل يحتاج إلى مبادئ، إلى قيم، يتربى عليها الإنسان، تترسخ في وجدان الإنسان قناعةً وإيماناً، يحتاج إلى اكتساب مهارات عملية تساعده لكي يكون بهذا المستوى الفاعل في أدائه، وفي النهوض بمسؤولياته، وفي القيام بدوره كخليفةٍ لله في الأرض.

وللإسلام مشروعه الحضاري المتميز، الذي يختلف عن أي حضارةٍ أخرى؛ لأنها حضارة تأخذ بعين الاعتبار السمو بالإنسان، ليست عمارة مادية بحتة، تبني العمران، وتهدم قيم الإنسان، هي تبني الإنسان، فيبني الحياة على أساسٍ صحيح، وعلى أساسٍ من القسط، وبشكلٍ راقٍ، وإلَّا فإذا لم يلحظ هذا في واقع الإنسان، مهما كانت الحضارة على المستوى المادي عملاقة، فهو في واقع حياته سيشقى، يشقى بانتشار الرذائل، بانتشار الجرائم، بانتشار المفاسد، كما يحصل مثلاً في الغرب؛ لأنه لاحظ جانباً واحداً من جوانب الحضارة، وهو الجانب المادي، وأهمل الجانب الآخر، ((وَاسْتِصْلَاحَ أَهْلِهَا)).

((وَعِمَارَةَ بِلَادِهَا))

وهذا يشمل كل الجوانب الخدمية، التي تتعلق بخدمة المجتمع، الخدمية بكلها، والاقتصادية، والنهضوية، والعمرانية، فهي عبارة تشمل جوانب كثيرة، وستأتي الكثير من التفاصيل التي تتعلق بهذه العناوين الأربعة.

فما الذي أمره به، بعد أن حدد له هذه المهام الرئيسية، التي تتفرع عنها بقية التفاصيل؟

((أَمَرَهُ بِتَقْوَى اللَّهِ))

تقوى الله هي الضابط الذي يضبط أداء الإنسان في مسؤوليته، يؤدِّي مسؤوليته في أي موقع من مواقع المسؤولية على أساس تقوى الله “سبحانه وتعالى”، وهذا ضابطٌ مهمٌ جداً؛ لأن الإنسان- الكثير من الناس- عندما يصل إلى منصب معين، وبالذات إذا كان منصباً كبيراً، والبعض من الناس لا يحتاج حتى إلى منصب كبير، البعض كما يقولون في المثل الشعبي: [يسكر من زبيبة]، البعض ولو كان منصبه منصباً صغيراً يطغى، يطغى؛ لأنه وصل إلى منصب معين، يتعامل مع الناس بطغيان، وتكبر، وتجبر، ويظلم، ويسيء، وتتغير سلوكياته، ويفقد أسلوب التواضع في معاملته مع الناس.

فالإنسان بحاجة إلى أن يرسِّخ في نفسه هذا الضابط المهم جداً؛ ليضبط أداءه العملي في أي موقع من مواقع المسؤولية على أساسه: تقوى الله “سبحانه وتعالى”، أن تستشعر أنك في أي موقعٍ من مواقع المسؤولية: كرئيس، أو وزير، أو مدير، أو مسؤول في أي موقع من مواقع المسؤولية، أنك تخضع لرقابة الله “سبحانه وتعالى”، وأنك قبل أن تكون مسؤولاً أمام الناس، أنت مسؤولٌ أمام الله “سبحانه وتعالى”، وأنَّ الله يرقبك، يعلم ما تفعل، يعلم بكل تصرفاتك، وأنه سيحاسبك، وسيجازيك، جزءٌ من حسابه وجزائه يأتي في عاجل الدنيا، يعاقبك ببعضٍ من العقوبات في عاجل الدنيا، والجزء الكبير، الجزء الرهيب في عالم الآخرة، ولهذا لتعرف أنك خاضعٌ للمؤاخذة إن انحرفت، إن ظلمت، إن طغيت، إن تجبرت، إن استكبرت، إن انحرفت عن مبادئ الحق والعدل والخير، أنَّ الله سيؤاخذك، لا تتصور أنك قد صرت في حَصَانَة.

البعض وبالذات في بعض النظم، وفي بعض الدول، يكون هناك ما يسمونها بالحصانة لبعض المسؤولين، ولكبار المسؤولين، حصانة من المحاسبة، حصانة من المؤاخذة، لكنهم لن يكونوا في حصانةٍ من الله، ومن حساب الله، الله سيحاسب الإنسان، لا يمكن أن تكون في منعة، تستطيع أن تدفع سخط الله، وغضب الله، وعذاب الله عنك في الدنيا والآخرة، فأنت في موقع المسؤولية في موقع المؤاخذة من الله، أنَّ الله سيعاقبك، سيحاسبك، ستنالك عقوبته مهما كنت تتصور أنك في منعة، في قوة، في عزة؛ لأنك أصبحت في منصب معين، أو تمتلك سلطةً معينة، فعليك أن تحذر، أن تحذر مما يسبب سخط الله عليك، غضب الله عليك؛ لأن الله “سبحانه وتعالى” يعلم بكل أحوالك، بكل تصرفاتك، مهما كان لديك من الحيل، أو مهما تصورت أنك فيه من منعة؛ لأنك في منصب معين، أو تمتلك سلطةً معينة.

((أَمَرَهُ بِتَقْوَى اللَّهِ، وَإِيْثَارِ طَاعَتِهِ))

أن تعرف أنك في موقع المسؤولية مهما كان هذا الموقع عبد من عباد الله “سبحانه وتعالى”، وظيفتك وظيفة عبودية لله “جلَّ شأنه”، وخدمة لعباده، وإحسان إلى عباده، وعليك أن تكون مطيعاً لله، لا تتصور أنك باسم أنك أصبحت في منصب معين، أو سلطة معينة، أصبحت فقط مطاعاً، لا تفكر إلَّا في أن يطيعك الآخرون، وتنتظر من الآخرين فقط أن يطيعوك، عليك أن تكون أنت مطيعاً لله، أنت في موقع المسؤولية، أنت في منصب معين، لكي تطيع الله قبل كل شيء، قبل أن تطيع هوى نفسك، قبل أن تطيع أهواء الآخرين، قبل أن تنتظر من الآخرين فقط أن يطيعوك، وتتصور أنك في الموقع الذي لم تعد فيه مطيعاً لأحد، وإنما تنتظر من الآخرين فقط أن يطيعوك، وأن تُؤْثِر طاعة الله فوق كل شيء، (إِيْثَارِ طَاعَتِهِ): أن تجعل طاعة الله فوق طاعتك لهوى نفسك ولأهواء الآخرين.

((وَاتِّبَاعِ مَا أَمَرَ بِهِ فِي كِتَابِهِ، مِنْ فَرَائِضِهِ، وَسُنَنِهِ، الَّتِي لَا يَسْعَدُ أَحَدٌ إِلَّا بِاتِّبَاعِهَا، وَلَا يَشْقَى إِلَّا مَعَ جُحُودِهَا وَإِضَاعَتِهَا))

أن تكون متَّبعاً لما أمرك الله به في كتابه، المنهجية التي تعتمد عليها في نظامك، في سياساتك، في قراراتك، في مواقفك، في منطلقاتك، أن تكون هي هدى الله “سبحانه وتعالى”، ما أمر به الله “سبحانه وتعالى”، ألَّا تخالف أوامر الله في شيء.

ولهذا نحن في بلداننا في العالم الإسلامي يجب أن يكون ما يعتمد عليه الناس في نظامهم، من قرارات، من أنظمة، من قوانين، تحت أي مسمى، أن تكون وفق أوامر الله “سبحانه وتعالى”، ألَّا يخالفوا أوامر الله في شيء؛ لأن هذا مقتضى انتمائنا للإسلام، انتمائنا للإيمان، إقرارنا بالقرآن، بالرسالة الإلهية، برسل الله، وأنبيائه، وكتبه.

فكذلك البعض قد يتصور أنه في موقع المسؤولية عندما يصبح باسم وزير، أو محافظ، أو مسؤول، أو مدير، في أي موقع من مواقع المسؤولية، أصبح فقط يصدر الأوامر وفق ما يريد، وفق مزاجه، وفق أهوائه؛ وبالتالي يرى أنه لا يجوز أن تُخَالَف، أنَّ على الناس أن ينفِّذوها فوراً، ألَّا يخالفوا شيئاً منها.

ليس هناك في الإسلام شيءٌ بهذا الشكل، الكل عبيدٌ لله “سبحانه وتعالى”، وفي موقع المسؤولية أن تكون أنت في أي موقع من مواقع المسؤولية متَّبعاً لأوامر الله “سبحانه وتعالى”، تسعى أن تنفذها، وأن ينفذها معك الآخرون؛ باعتبار الجميع عبيداً لله “سبحانه وتعالى”.

ثم مع إيمان بأن منهج الله، وما أمر الله به، هو الذي فيه الخير للناس، هو الذي يسعد به الناس في حياتهم، هو الذي تتحقق به مصالحهم، نحن نؤمن بأن هدي الله، وأن منهج الله، وأن شرع الله، وأن توجيهات الله، وأن تعليمات الله، هي التي تصلح بها حياة الناس، ولا تستقيم إلَّا بها، أي شيءٍ يخالفها، يعارضها، يُقَدَّم ليكون بديلاً عنها، ليس فيه إلَّا الشقاء، ليس فيه إلَّا إفساد حياة الناس، السياسية، والاجتماعية، والاقتصادية… وغيرها؛ لأنه {وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ حُكْمًا لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ}[المائدة: من الآية50]، من هو الأرحم بنا من الله؟ من هو الأحكم، حتى يقدِّم نفسه أنه أحكم حتى من الله، والأعلم بمصالح الناس حتى من الله؟ لا أحد، لا أحد؛ ولذلك فأوامر الله، وتوجيهاته، وفرائضه، وشرائعه، وسننه، هي التي تحقق الخير لنا في حياتنا، وتستقيم بها حياتنا، ونؤدِّي فيها دورنا في بناء حضارةٍ إسلاميةٍ راقيةٍ ومتميزة في الواقع البشري.

((لَا يَسْعَدُ أَحَدٌ إِلَّا بِاتِّبَاعِهَا، وَلَا يَشْقَى إِلَّا مَعَ جُحُودِهَا وَإِضَاعَتِهَا))، الشقاء يكون:

  • إمَّابجحودها: عندما يأتي من يجحدها بالكامل، لا يؤمن بها، لا يقبل بها، يرفضها رفضاً تاماً، ويعتبرها غير صالحة كنظام للحياة، تدار به شؤون الناس.
  • أوالإضاعة: يكون مقراً ومعترفاً بها، ولكن يغيَِّبها من واقع الحياة.

وهذا يحصل في كثيرٍ من البلدان الإسلامية، ترى في الدستور مادة أساسية: أنَّ الشريعة الإسلامية هي المصدر الأساسي، أو الرئيسي- أو بحسب مختلف التعبيرات- للتشريع، ولكن يأتون فيما بعد ليعتمدوا الكثير من القوانين، والسياسات، والنظم، التي تخالف الإسلام، ولا تنسجم بأي حالٍ من الأحوال مع الإسلام، أو يغيِّبون الكثير من المعايير والضوابط، التي لابدَّ منها حتى فيمن يتقلَّدون المسؤولية، فيمن يتحمَّلون المسؤولية، تغيب تلك المواصفات القيمية والأخلاقية، والمؤهلات الدينية والأخلاقية والمعرفية وغيرها، ذات الصلة بإدارة شؤون الناس؛ فينتج عن هذا الضياع شقاء في واقع الناس، خلل في واقع الحياة، لا تستقيم حياة الناس، تظهر مشاكل كبيرة في واقعهم السياسي، في واقعهم الاقتصادي، في شؤونهم الأمنية والاجتماعية.

فالثمرة الحقيقية تتحقق للجهود العملية في إدارة شؤون الناس عندما تنطلق على هذا الأساس، لتنفيذ أوامر الله وتوجيهاته.

((وَأَنْ يَنْصُرَ اللَّهَ سُبْحَانَهُ بِقَلْبِهِ، وَيَدِهِ، وَلِسَانِهِ))

لأنه في سياق العمل على تنفيذ أوامر الله “سبحانه وتعالى”، وتوجيهاته، وتعليماته، التي تحقق القسط في واقع الحياة، سيصطدم الإنسان بالذين يعتبرون أنفسهم متضررين منها، بالمفسدين، بالطامعين، بالمجرمين، بالمستكبرين، الذين يريدون أن ينشروا الفساد بدلاً من الصلاح، الذين يريدون أن يستأثروا، أن ينهبوا، أن يظلموا، أن يطغوا، أن يجعلوا من السلطة وسيلةً لتحقيق ذلك، الإنسان سيصطدم بهم؛ لأنهم يرون في توجيهات الله وفي أوامر الله التي تحقق القسط، وتقيم العدل، وتصلح واقع المجتمع، أنها متعارضة مع مصالحهم؛ فبالتالي سيتصدون لها، يحاربونها إعلامياً، يسعون إلى تشويهها بالدعايات الكاذبة، يحاربونها عسكرياً، وأمنياً… وبكل الوسائل، فإذا كان الإنسان لا يريد أن يتحرك لتنفيذ أوامر الله، وتوجيهات الله، وتعليمات الله، إلَّا في حال كان لن يلقى ولن يواجه أي مشاكل، أو صعوبات، أو تحديات، فهو سيتقاعس، والضحية هو المجتمع، الضحية هم الجميع يخسرون، يكون بذلك إتاحة المجال للطغاة، والمجرمين، والمفسدين، والمتسلطين، والعابثين، والسيئين، ليفعلوا ما يحلو لهم، لينتهزوا الفرصة، ويتوصَّلون من مواقع المسؤولية والسلطة إلى أهدافهم السيئة، والضحية هي الأمة بكلها؛ ولذلك عندما ينطلق الإنسان لابدَّ أن يكون عازماً على التصدي لكل المحاولات التي تسعى إلى منع إقامة منهج الله الحق، تشريعاته، أوامره، تعليماته المباركة، التي تصلح الحياة، ويتحقق بها القسط.

((وَأَنْ يَنْصُرَ اللَّهَ سُبْحَانَهُ بِقَلْبِهِ، وَيَدِهِ، وَلِسَانِهِ))، في مشاعر الإنسان، وفي تفكيره، وفي اهتماماته النفسية، وفي- كذلك- أنشطته العملية، وأنشطته الإعلامية، والتوعوية، والتثقيفية، يستخدم كل الوسائل لإيصال الحق إلى الناس، لإقناع الناس بالحق، لإقامة القسط، لدفع الناس  إلى الالتزام بتعليمات الله وتوجيهاته، والاستجابة العملية لها، لفضح الأعداء الذين يحاربونها؛ لأنهم يريدون أن يحل بدلاً منها الفساد، والرذائل، والمعاصي، والطغيان، والظلم، والجرائم، والمنكرات، والفواحش، أن يفضحهم، أن يتصدى لهم بكل الوسائل.

((فَإِنَّهُ جَلَّ اسْمُهُ قَدْ تَكَفَّلَ بِنَصْرِ مَنْ نَصَرَهُ، وَإِعْزَازِ مَنْ أَعَزَّهُ))

الله “سبحانه وتعالى” عندما تنصره بالتمسك بالحق، بنصرة الحق، بنصرة ما وجَّه إليه، بالتمسك بما أمر به، بتقديم ذلك للناس بكل الوسائل، بفضح من يحاربون عباد الله، يريدون أن يستغلوهم، أن يظلموهم، أن يقهروهم، أن يستعبدوهم، عندما تتحرك على هذا الأساس، أنت تحظى بنصر الله، أنت تحظى بمعونة الله، بتأييد الله، بأن يعزك الله؛ لأن الإنسان قد يتصور أنَّ الأسلوب السياسي هو في الخضوع للطغاة، والمستكبرين، والمجرمين، المتسلطين على عباد الله، وأن يتماشى معهم في أن يترك لهم المجال في ظلمهم، وطغيانهم، وإجرامهم، واستكبارهم في الأرض، كأسلوب سياسي؛ لتجنب المشاكل، فتحصل الكثير من المشاكل، أكبر المشاكل هي في تسلط الطغاة، وتمكن المستكبرين والمجرمين، هذه أكبر المشاكل، أمَّا بالسعي لتنفيذ أوامر الله “سبحانه وتعالى”، فالله “سبحانه وتعالى” يمنح النصر، وهو من تَكَفَّلَ بِنَصْرِ مَنْ نَصَرَهُ، وَإِعْزَازِ مَنْ أَعَزَّهُ.

نكتفي بهذا المقدار كمقدمة وافتتاح لهذه الوثيقة المباركة والمهمة.

نسأل الله “سبحانه وتعالى” أن ينفعنا بها، وأن يوفِّقنا وإيَّاكم لما يرضيه عنا، وأن يرحم شهداءنا الأبرار، وأن يشفي جرحانا، وأن يفرِّج عن أسرانا، وأن ينصرنا بنصره، إنه سميع الدعاء.

وَالسَّـلَامُ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَةُ اللهِ وَبَرَكَاتُهُ؛؛؛