نص : المحاضرة الرمضانية الثامنة والعشرون للسيد عبدالملك بدرالدين الحوثي 1443هـ
أَعُـوْذُ بِاللهِ مِنْ الشَّيْطَان الرَّجِيْمِ
بِـسْـــمِ اللهِ الرَّحْـمَـنِ الرَّحِـيْـمِ
الحمدُ لله رَبِّ العالمين، وأَشهَـدُ أن لا إلهَ إلَّا اللهُ الملكُ الحقُّ المُبين، وأشهَدُ أنَّ سيدَنا مُحَمَّــداً عبدُهُ ورَسُــوْلُه خاتمُ النبيين.
اللّهم صَلِّ على مُحَمَّــدٍ وعلى آلِ مُحَمَّــد، وبارِكْ على مُحَمَّــدٍ وعلى آلِ مُحَمَّــد، كما صَلَّيْتَ وبارَكْتَ على إبراهيمَ وعلى آلِ إبراهيمَ إنك حميدٌ مجيدٌ، وارضَ اللهم برضاك عن أصحابه الأخيار المنتجبين، وعن سائر عبادك الصالحين والمجاهدين.
أيُّها الإخوة والأخوات
السَّـلَامُ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَةُ اللهِ وَبَرَكَاتُهُ؛؛؛
اللهم اهدنا، وتقبَّل منا، إنك أنت السميع العليم، وتب علينا، إنك أنت التواب الرحيم.
شهر رمضان شهر التزود بالتقوى، التقوى التي هي وسيلةٌ للفوز والنجاة، وبها يحقق الإنسان أعظم الآمال، وأكبر الأماني، بل أكبر وأعظم وأسمى مما يتمناه ويرغب به، وعد الله “سبحانه وتعالى” بالجنة، محبة الله، رعايته الواسعة، كلها ارتبطت بمسألة التقوى، واقترنت بالتقوى، {أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ}[آل عمران: من الآية133]، هكذا يقول عن الجنة: {تِلْكَ الْجَنَّةُ الَّتِي نُورِثُ مِنْ عِبَادِنَا مَنْ كَانَ تَقِيًّا}[مريم: الآية63]، معية الله، أن يكون معك، وأن يكون مع أمةٍ معينة، أو مجتمعٍ معين، مرتبطةٌ بالتقوى أيضاً، فهي وسيلةٌ مهمة للوصول إلى الفوز العظيم، وإلى الربح الحقيقي، وإلى السعادة الأبدية.
ما يصرف البعض عن تقوى الله “سبحانه وتعالى” هو شهواتهم، ورغباتهم، وآمالهم، وطموحاتهم، وأهواؤهم، التي مهما بذلوا من أجلها، ومهما فرَّطوا في التقوى من أجلها؛ لن يصلوا فيها- في نهاية المطاف- إلى مبتغاهم بشكلٍ تام، هناك الكثير من المنغصات، والكثير أيضاً من العوائق، وأيضاً- في نهاية المطاف- يتحمَّلون التبعات، عندما يفرِّطون في التقوى، وهم يسعون وراء رغبات أنفسهم، وأهواء أنفسهم، ويعتمدون على أهواء أنفسهم.
وظروف الحياة بنفسها، ظروف الإنسان فيها محاطٌ بالكثير من العوائق، والمشاكل، والهموم، لا يمكن أن يصل إلى ما يريده، وإلى مبتغاه، وأن تستقر له حياة تكتمل فيها كل رغباته، وكل آماله، وكل أمانيه، وفق ما يشتهي، ومن دون منغصات، هذا لا يحصل ولا يتم لأحدٍ أبداً.
ما يصرف البعض عن تقوى الله “سبحانه وتعالى” أيضاً هو أخلاَّؤهم، وأصدقاؤهم، الذين لهم بهم علاقةٌ وثيقةٌ، ويتبادلون فيما بينهم المحبة القوية، وتربطهم صلة الصداقة القوية، لها أهميتها الكبيرة في التأثير فيما بينهم، نتيجةً لما يكون بين الصديق وصديقه، والخليل وخليله، من محبةٍ، من تأثيرٍ وجدانيٍ ونفسي، من ثقةٍ واعتماد، ولها أهميتها في الاتجاهين:
- اتجاه الانحراف عن التقوى، والابتعاد عن التقوى، أو التفريط بالتقوى.
- وأهميتها أيضاً يمكن أن تكون في تعزيز حالة التقوى.
ولذلك يقول الله “سبحانه وتعالى” في القرآن الكريم: {الْأَخِلَّاءُ يَوْمَئِذٍ}[الزخرف: من الآية67]، يعني: في يوم القيامة، عند بعث الناس للحساب، {الْأَخِلَّاءُ يَوْمَئِذٍ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ إِلَّا الْمُتَّقِينَ}[الزخرف: الآية67]، الأخلاء الذين كانت تربطهم في هذه الدنيا صداقةٌ وثيقةٌ، ومحبةٌ قوية، وعلاقةٌ حميمية، يتأثرون ببعضهم البعض، يقفون مع بعضهم البعض في مختلف النوائب والشدائد، يتضامنون مع بعضهم البعض في حالة المحن، والأزمات، والهموم، والمشاكل، يرتاحون لبعضهم البعض، يُسَرَّون ببعضهم البعض، يفرحون ببعضهم البعض.
في يوم القيامة يتغير حالهم تماماً، تلك المحبة القوية، تلك العلاقة الحميمية، تلك الصلة والقرب فيما بينهم تتبدل بشكلٍ تام إلى عداءٍ شديد، وكرهٍ وبغضٍ شديد، وكلٌ منهم يكره الآخر، يبغضه، يعاديه، يمتلئ حقداً عليه، ينفر منه، لماذا؟ لأنه يراه سبباً في انحرافه عن التقوى، يراه سبباً فيما وصل إليه من الشقاء؛ وبالتالي يغضب منه، ويستاء منه، ويحقد عليه، ويكرهه، ويبغضه، ويتبرأ منه، ويلعنه، ويعاديه.
{إِلَّا الْمُتَّقِينَ}، فحالهم مختلفٌ تماماً، من كانت خُلَّتُهم في الدنيا، صداقتهم في الدنيا، علاقتهم الحميمية في الدنيا، روابطهم في هذه الدنيا قائمةٌ على أساس التقوى والإيمان، فكانوا يتواصون بالحق، يتواصون بالصبر، يتعاونون على البر والتقوى، كانت صداقتهم، وأخوتهم، ومحبتهم لبعضهم البعض، وعلاقتهم القوية ببعضهم البعض عوناً لهم على تقوى الله “سبحانه وتعالى”، على الاستقامة على نهجه، كانوا يتواصون بالحق، فيزدادون ثباتاً عليه وتمسكاً به، وكانت تلك العلاقة تساهم في أن يؤثِّروا على بعضهم البعض الأثر الإيجابي، في الحالات التي قد يتأثر فيها البعض بعوامل أخرى تكاد أن تصرفه عن الحق، فيأتي النصح، النصح الخالص، الصادق، الذي ينطلق على أساس التقوى، فيترك أثره البالغ، ومساعدته الكبيرة في الاستمرار في طريق الاستقامة على نهج الله “سبحانه وتعالى”.
فهم في يوم القيامة رأوا ثمرة هذه الأخوّة، هذه العلاقة الإيمانية، هذه المحبة، هذه الخُلَّة التي كانت قائمةً على أساس التقوى، كانت ثمرتها طيِّبة، ثمرتها الفوز العظيم، ففي يوم القيامة لن يكونوا متعادين، بل إنهم سيرون صداقتهم تلك، أخوتهم تلك، محبتهم وعلاقتهم تلك، روابطهم تلك، وما قامت عليه من التواصي بالحق، من التعاون على البر والتقوى، سبباً من أسباب فلاحهم وفوزهم ونجاتهم، فتزداد محبتهم، وألفتهم، وانسجامهم، وارتياحهم، واعتزازهم بتلك العلاقة الإيمانية، بتلك الأخوّة، بتلك الروابط والصداقة والمحبة التي كانت قائمةً على أساس التقوى.
إلى أن يصلوا إلى الجنة، وفي الجنة يكونون كما قال الله عنهم: {إِخْوَانًا عَلَى سُرُرٍ مُتَقَابِلِينَ}[الحجر: من الآية47]، يلتقون في الجنة في مجالسها التي هي مجالس مميزة، يشربون فيها من مشروبات الجنة الراقية، يتذاكرون أيام كانوا في الدنيا، أيام حياتهم في هذه الحياة، ويتذكرون ويتحدثون عمَّا قد وصلوا إليه من نعيمٍ وسعادةٍ أبدية في مستقر رحمة الله، ودار كرامته، حكى القرآن الكريم الشيء الكثير عن ذلك.
في الخُلَّة التي تؤثر على الكثير من الناس، لدرجة أن البعض قد يكون اتجه في طريق الحق، وفي طريق تقوى الله “سبحانه وتعالى”، تقوى الله في الاستقامة على نهجة، تقوى الله في التحرك في إطار المسؤوليات، التي علينا أن ننهض بها، أن نهتم بها، ثم يقترن في مرحلةٍ من المراحل بصديق، صديق جديد، فيتأثر به، وتقوى الروابط فيما بينهما، ثم يبدأ يوسوس له، يستفزه، يتحدث معه أحياناً في بعض المراحل، أو في بعض الظروف، بما يؤثر عليه، فإذا واجه الإنسان إشكاليات معينة، أو قضايا معينة، استغلها أكثر في التأثير السيء على نفسية الإنسان، وهكذا يبقى يوسوس له، يؤثر فيه، يشده في الاتجاه الخاطئ، يُقَدِّم له ما يؤثر عليه، أو أحياناً قد يكذب، يكذب عنده.
دور الصديق الحميم المقرب هو دورٌ حساس، إذا لم يكن من المتقين، إذا لم يكن ممن يوصي بالحق، ممن يتجه في اتجاه أن يساعدك على الثبات في الموقف الحق، وفي طريق الحق، وفي عمل الحق، وفي العمل الصالح، دوره حسَّاس ومؤثِّر، بموقعه في نفسك، بتأثيره على نفسك، بمحبتك له، تتأثر به، محبتك له بالنسبة له هي جسرٌ يعبر من خلاله إلى أعماق نفسك، فيترك فيها الأثر، الأثر المعين.
فلذلك يأتي في القرآن الكريم التحذير من أخلاء السوء، من أخلاء الهوى، والبعض يُعجَب بهم؛ لأنه يراهم يتماشون مع نفسيته، إن غضب؛ غضبوا معه في الباطل، وشدوه أكثر، ودفعوه أكثر، فرآهم يتماشون مع حالته النفسية والمزاجية، وإن رغب؛ تماشوا معه في رغباته مهما بلغت، مهما وصلت، مهما كانت، حتى لو كانت خروجاً عن التقوى.
البعض من الناس يعجبه هذا النوع من الأصدقاء، بل يزداد تعلُّقه به؛ لأنه يراه متماشياً معه في كل الأحوال، في غضبه وانفعاله يراه متطابقاً معه بشكلٍ تام، لا يردعه عن خطأ، لا يوصيه بالحق، لا يحاول أن ينصحه، بل إنَّ البعض من الناس يكره هذا النوع من الأصدقاء، يتعقَّد منهم، من النوع الذين لا يماشونه في كل الأحوال، في حالات الغضب والانفعال، أو في حالات الرضا والرغبة، ينفر منهم، ويعتبرهم ليسوا بأصدقاء كما يريد هو، هو يعجبه النوع الذي ينسجم معه في كل الحالات، مهما كان موقفه خاطئاً، أو سلبياً، فيرتاح لهم، ويزداد تعلُّقه بهم، ويعتبر أن ذلك من علاقتهم الوثيقة، من صداقتهم الحقيقية، أنَّ هكذا هي الصداقة، وهذا هو خطأ، تصورٌ خاطئٌ بكل ما تعنيه الكلمة.
الصديق من صَدَقَك، الذي هو صادقٌ معك، يريد لك الخير، يريد لك الخير بكل ما تعنيه الكلمة، وإذا أراد لك الخير، فهو ذلك أيضاً الذي يدرك أنَّ المعيار فيما يتحقق به الخير، هو تقوى الله، تقوى الله هي أساس كل خير، ومفتاح كل خير، فلا يحيد بك عن تقوى الله “سبحانه وتعالى”، وهذه مسألة مهمة جدًّا.
حذَّر القرآن من النوع الذي يتجه بك نحو الهوى، وينصرف بك عن التقوى، ويبعدك عن هدى الله “سبحانه وتعالى”، وبيَّن مدى حسرة الإنسان يوم القيامة، إذا تأثر بهذا النوع من الأصدقاء، في يوم القيامة في حالات الندم الشديد، والحسرة الشديدة، وإدراك الخسارة الفادحة الرهيبة، وهو يحكي عن هذا النوع الذي يتندم فيقول: {يَا وَيْلَتَى لَيْتَنِي لَمْ أَتَّخِذْ فُلَانًا خَلِيلًا (28) لَقَدْ أَضَلَّنِي عَنِ الذِّكْرِ بَعْدَ إِذْ جَاءَنِي}[الفرقان: 28-29]، هكذا يتحسَّر، هكذا يتندم، يتمنى بعد فوات الأوان، أنه لم يتخذ فلاناً، سيذكره باسمه، فلان (باسمه)، الذي أضلني عن الذكر، صرفني عن إتِّباع القرآن، دفع بي إلى مخالفة الهدى، إلى مخالفة آيات الله، قد يكون هذا في موضوع من المواضيع الرئيسية، التي لها تبعاتها، وتؤثِّر على الإنسان تجاه ما هو من صميم التقوى، من المسؤوليات، أو الأعمال العظيمة، أو كذلك ينحرف بك إلى فعل ما محرم، أو ترك ما هو من أهم المسؤوليات الإيمانية والدينية، يتحسر الإنسان.
يقول الله “سبحانه وتعالى” أيضاً: {وَمَنْ يَعْشُ عَنْ ذِكْرِ الرَّحْمَنِ نُقَيِّضْ لَهُ شَيْطَانًا فَهُوَ لَهُ قَرِينٌ}[الزخرف: الآية36]، من يتعامى عن هدى الله، فترك علاقته الوثيقة بهدى الله، علاقة الإتِّباع، والاهتداء، والتمسك، والتقبل، والالتزام في ميدان العمل، في هذه الحالة يخذل، ويسلب التوفيق من الله “سبحانه وتعالى”، فيكون البديل عن هدى الله الذي هو النور: شيطان، يكون البديل شيطاناً من شياطين الإنس، أو الجن، يكون قريناً له، والكثير من شياطين الإنس من هم حتى أسوأ، وأكثر خطورةً، وأبلغ تأثيراً من شياطين الجن، {فَهُوَ لَهُ قَرِينٌ}.
{وَإِنَّهُمْ لَيَصُدُّونَهُمْ عَنِ السَّبِيلِ}[الزخرف: الآية27]، يصدونهم عن سبيل الله، عن طريق الحق، عن الاتجاه الصحيح، ويصرفونهم عن ذلك، ويزيِّنون لهم ما يصرفونهم به؛ حتى يقنعوهم أنهم على صواب في انحرافهم، في موقفهم، ويبررون لهم ذلك، ويقدِّمون لهم من التبريرات ما يقنعونهم به، حتى يتصور أنه غير خاطئ في موقفه.
{وَإِنَّهُمْ لَيَصُدُّونَهُمْ عَنِ السَّبِيلِ وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ مُهْتَدُونَ (37) حَتَّى إِذَا جَاءَنَا قَالَ يَا لَيْتَ بَيْنِي وَبَيْنَكَ بُعْدَ الْمَشْرِقَيْنِ فَبِئْسَ الْقَرِينُ}[الزخرف: 37-38]، في يوم القيامة يدرك أنه انحرف به ذلك القرين عن طريق الفوز، والنجاة، والسعادة الأبدية.
مما يذكره القرآن الكريم مما يتعلق بذلك: قصة أحد أهل الجنة، كان له قرينٌ في الدنيا، كان يسعى لصرفه عن الحق، وعن اتجاه الإيمان، وعن التصديق بالحق، ولكنه- بتوفيق الله- تدارك نفسه، وتداركه الله برحمته، فأنقذه من تأثير ذلك القرين، وفي الآخرة، في الجنة، وأهل الجنة في الجنة يتساءلون فيما بينهم، كلٌّ يتحدث عن قصة حياته، عن أسباب فوزه ونجاته، عن المخاطر التي قد مرَّ بها في الحياة الدنيا، وكانت على وشك أن تؤثِّر عليه، ولكن الله وفَّقه وأنقذه منها، فأهل الجنة كما قال الله عنهم، يقول: {فَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ يَتَسَاءَلُونَ (50) قَالَ قَائِلٌ مِنْهُمْ إِنِّي كَانَ لِي قَرِينٌ}[الصافات: 50-51]، قرين في الدنيا، في الحياة الدنيا، صديق حميم ومقرَّب، {يَقُولُ أَإِنَّكَ لَمِنَ الْمُصَدِّقِينَ (52) أَإِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَابًا وَعِظَامًا أَإِنَّا لَمَدِينُونَ}[الصافات: 52-53]، إذا متنا وبعد الموت كنا تراباً وعظاماً، هل هناك جزاء؟ هل هناك حساب؟ هل هناك جنَّةٌ ونار؟ هل تصدق أننا إذا كنا تراباً وعظاماً يحدث لنا ذلك؟ {أَإِنَّا لَمَدِينُونَ (53) قَالَ هَلْ أَنْتُمْ مُطَّلِعُونَ}[الصافات: 53-54]، الاطِّلاع في مكان في الجنة، ربما فيه إمكانيات معينة، ووسائل معينة، من خلالها يتمكن أهل الجنة من مشاهدة أهل النار.
{قَالَ هَلْ أَنْتُمْ مُطَّلِعُونَ (54) فَاطَّلَعَ فَرَآهُ فِي سَوَاءِ الْجَحِيمِ}[الصافات: 54-55]، وجد صديقه ذلك في وسط جهنم والعياذ بالله، {قَالَ تَاللَّهِ إِنْ كِدْتَ لَتُرْدِينِ (56) وَلَوْلَا نِعْمَةُ رَبِّي لَكُنْتُ مِنَ الْمُحْضَرِينَ}[الصافات: 56-57]، عندما شاهده في وسط جهنم، تذكر كيف لو بقي معه، لو حافظ على صداقته به، لو تقبَّل منه كلامه، وانحرف معه، لكان معه في ذلك العذاب، لكان معه في ذلك الهلاك؛ فأدرك خطورة المسألة، وأنها كانت خطيرةً جدًّا.
فلذلك يجب أن يكون الإنسان متنبهاً، وألَّا يكون المعيار عنه في القرب من أصدقائه، وأعزائه، وأحبائه، هو مجرد تماشيهم معه في كل الحالات، وأن يكره منهم من ينصحه، من يوصيه بالحق، من يساعده على التزام التقوى، فيضجر منه، ويعتبره غير صديقٍ حقيقي، ينفر منه، يحذر من هذه الحالة.
{الْأَخِلَّاءُ يَوْمَئِذٍ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ إِلَّا الْمُتَّقِينَ}، فالتقوى التي جمعت بينك وبين الآخرين، فكانت أساساً لعلاقاتك وروابطك، إنما تبقى أساساً في كل الأحوال، حتى في يوم القيامة.
في يوم القيامة، في يوم الأهوال الشديدة، في يوم الفزع الأكبر، يأتي النداء من الله “سبحانه وتعالى” لعباده المتقين: {يَا عِبَادِ لَا خَوْفٌ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ وَلَا أَنْتُمْ تَحْزَنُونَ}[الزخرف: الآية68]، {لَا خَوْفٌ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ}، أصل هذا النداء وهو موجهٌ من الله “سبحانه وتعالى” إلى عباده المتقين في ساحة المحشر، في يوم القيامة، في تلك الأهوال الرهيبة، بعد أن برِّزت جهنم، وأظهرت، وقرِّبت، في تلك الحال الرهيبة جدًّا يأتي هذا النداء العظيم من الله، من الله “سبحانه وتعالى”، فينادي عباده المتقين، ويطمئنهم، {لَا خَوْفٌ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ}، ليس هناك ما يمكن أن يخاف عليكم منه؛ لأن النجاة مكتوبةٌ لكم، {وَلَا أَنْتُمْ تَحْزَنُونَ}، ولن تحزنوا، لن يكون هناك ما يحزنكم أبداً، انتهت حياة الحزن في الدنيا، فيطمئنهم في يوم الفزع الأكبر، الطمأنة في ذلك الموقف العظيم الأهوال، الشديد الأهوال، هي من أعظم النعم، هي من أول ما فازوا به، ومن أعظم ما فازوا به، أن يحصلوا على الأمن والاطمئنان في يوم الفزع الأكبر.
من هم هؤلاء المتقين؟ {الَّذِينَ آمَنُوا بِآيَاتِنَا وَكَانُوا مُسْلِمِينَ}[الزخرف: الآية69]، الذين آمنوا بآيات الله، صدَّقوا بها، وثقوا بها، وثقوا بما تضمنته من الوعود الإلهية، صدَّقوا بما فيها من الحقائق، وقبلوا، قبلوا عن الله، فالتزموا عملياً على أساسها، كانت هي الأساس في التزامهم العملي، تمسَّكوا بها، ساروا على أساس ما تدل عليه، وتهدي إليه، وترشد إليه.
{وَكَانُوا مُسْلِمِينَ}، كانوا مسلمين لله تعالى، مسلِّمين لأمره، مستجيبين له، فهذا الإيمان الذي قام على أساس التسليم لأمر الله، والاستجابة العملية لله تعالى، كانت ثمرته التقوى.
{ادْخُلُوا الْجَنَّةَ}[الزخرف: من الآية70]، هكذا يقول الله لهم: {ادْخُلُوا الْجَنَّةَ}، بعد أن طمأنهم، وبشَّرهم وهم في ساحة المحشر، يأتي من الله “سبحانه وتعالى” النداء لهم ليتجهوا إلى الجنة، وليدخلوا الجنة، وما أعظمه من فوز! ما أكبرها من سعادة! ما أعظمها من فرحة! فرحة دخول الجنة، اللحظة التي يدخل فيها المتقون إلى عالم الجنة، يتوجه فيها حتى من كانت صداقتهم في هذه الدنيا، وقد التقوا يوم القيامة، وتعارفوا، وتآلفوا، وفرحوا ببعضهم البعض، وفرحوا لبعضهم البعض بالفوز والنجاة، واتجهوا سوياً إلى الجنة، ثم دخلوا، لحظة الدخول إلى عالم الجنة هي لحظةٌ لا يمكن أن يوصف مستوى الفرح فيها، في بعض الروايات والآثار: ((لو بقي موتٌ لمات الإنسان من شدة فرحته))، أول ما يدخل إلى عالم الجنة، ويشاهد عالم الجنة.
{ادْخُلُوا الْجَنَّةَ أَنْتُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ}[الزخرف: من الآية70]، كذلك يدخل الإنسان مع زوجته، مع أسرته التي كانت معه في طريق التقوى، فيلتئم الشمل، شمل الأسرة، شمل العائلة، ويدخل الإنسان إلى عالم الجنة فرحاً، مسروراً، مبتهجاً، سعيداً، مرتاحاً، يشعر بالفوز، {تُحْبَرُونَ}، تصلون إلى موطن السرور الأبدي، حيث تعيشون حالة السرور العظيم، والفرح الدائم، والنعيم العظيم، الذي يظهر أثره عليكم، في وجوهكم، في زينتكم، في أحوالكم، في حياتكم بكلها، الجنة هي موطن السرور الابدي، والفرح الدائم.
هذا ما لا يحصل لأحدٍ في هذه الدنيا، ليس هناك من أحد يمكن أن يعيش دائماً في حالة سرور وفرح، لا يحزن، لا يضجر، لا يصاب بالهموم، لا يعاني الغم، والهم، والأحزان، في هذه الدنيا لا يدوم سرور، يأتي الحزن، تأتي الهموم، تأتي المنغصات، تأتي المزعجات الكثيرة للإنسان، في أكثر الأحيان لا يكاد يمرُّ يومٌ على الإنسان يتم له ويكتمل له فيه سروره، يأتي ما يحزنه، وفي هذا العصر الأحزان كثيرة، الأحزان كثيرة جدًّا، والهموم كثيرة.
ففي الجنة السرور الدائم، فيها كل ما يساعد على إيجاد حالة السرور، كل ما يسر به الإنسان، من كل أمور الحياة، من كل الرغبات، كل الأجواء فيها أجواء تبعث على السرور، يفرح بها الإنسان، كل ما هناك يَسُرّك، كل ما فيها يسرك، وتفرح به، وترتاح به، وليس هناك ما يحزنك، أو ينغص عليك حياتك، أو يصيبك بالهم، أو الضجر، أو الملل، ليس هناك ما يؤذيك، ليس هناك ما يزعجك، فالجنة هي موطن السرور الخالص الأبدي العظيم، والارتياح الدائم، والفرحة الكبرى التي لا تنتهي؛ وإنما تتجدد، تعظم، تكثر، ارتياح للدائم، للأبد.
{يُطَافُ عَلَيْهِمْ بِصِحَافٍ مِنْ ذَهَبٍ}[الزخرف: من الآية71]، في الجنة أهل الجنة فيها منعمون، ولا يحتاجون إلى أن يتعبوا، أو يخدموا أنفسهم، أو يجلبوا حاجاتهم، أو يتعبوا أنفسهم، الإنسان وحتى زوجته معه لن تحتاج أن تمضي وقتها في الجنة وهي تطبخ، {يُطَافُ عَلَيْهِمْ بِصِحَافٍ مِنْ ذَهَبٍ وَأَكْوَابٍ}[الزخرف: من الآية71]، يأتي خدمهم في الجنة ليطوفوا عليهم بصحاف، الصحاف نفسها التي فيها في محتواها، وتحمل من ثمار الجنة، من أطعمة الجنة، مما في الجنة من النعيم العظيم، مما لذ وطاب، {بِصِحَافٍ مِنْ ذَهَبٍ}، الصحاف نفسها من الذهب، في غاية التكريم، في غاية النعيم، الصحاف بنفسها على أروع مستوى، في زينتها، في جمالها، في روعتها، حتى أواني الجنة أواني رائعة جدًّا، أصلها من الذهب، وهي في غاية الجودة، والإتقان، والجمال، والروعة، وأما ما فيها من الطعام فهو على مستوى راقٍ وعظيم جدًّا، الأكواب كذلك أكواب من ذهب، وفي الآية الأخرى أيضاً يبين تنوع الأواني في الجنة، من الذهب، والفضة، والأكواب من ذهب الجنة، ومن فضة الجنة، وصناعة من الله، على أرقى مستوى.
{وَفِيهَا} وفي الجنة {مَا تَشْتَهِيهِ الْأَنْفُسُ}[الزخرف: من الآية71]، كل ما يمكن أن تشتهيه نفسك، ونفس الإنسان المتقي بالتأكيد هي راقية، زكية، طيبة، تشتهي الأشياء الراقية والطيبة، لسمو الإنسان، شهوته هناك هي على أساس زكاء نفسه، الأشياء الطيبة، الأشياء الراقية، الأشياء العظيمة، وهذه عبارةٌ جامعةٌ لكل نعيم: {وَفِيهَا مَا تَشْتَهِيهِ الْأَنْفُسُ وَتَلَذُّ الْأَعْيُنُ}، عبارةٌ جامعة، وهذا لا يوجد لأحدٍ في الدنيا، لا ملك، ولا تاجر، ولا أكبر ثري في الدنيا، أن يتمكن من أن يحصل على كل ما تشتهيه نفسه، ويرتاح بذلك، ومن دون منغصات، لا يتمكن، البعض تحصل لهم عوائق حتى على المستوى الصحي في أنفسهم، لو امتلك المال، فأمامه عائق صحي لن يستفيد من ذلك المال.
{وَتَلَذُّ الْأَعْيُنُ}، المناظر الخلابة، المناظر الرائعة جدًّا التي تفرح النفس بها، ترتاح النفس بمشاهدتها، أنواع الزينة، كل شيءٍ في الجنة على أرقى مستوى، المساكن، مناظر الجنات، والبساتين، والمزارع، كل الأشكال، الزينة، كل الأشياء التي يراها الإنسان تبهجه، يرتاح برؤيتها، يُسَر بمشاهدتها، يرتاح، وفي نفس الوقت يستفيد من أي شيءٍ يريد أن يستفيد منه، {وَتَلَذُّ الْأَعْيُنُ}.
{وَأَنْتُمْ فِيهَا خَالِدُونَ}[الزخرف: من الآية71]، ذلك النعيم العظيم ليس هناك مخاوف من أنه ليس سوى نعيمٍ مؤقت، ثم ينتهي، هذا هو حال الدنيا كل ما فيها مؤقت، في الآخرة يقول الله: {وَأَنْتُمْ فِيهَا خَالِدُونَ}، لن تموتوا، لن تهرموا، لن تمرضوا، لن ينتهي هذا النعيم، ستعيشون في هذا النعيم للأبد، في ذلك السرور العظيم، والراحة العجيبة، وتوفر كل الأشياء التي ترغبون بها، وتتنعمون بها، تتوفر لكم، وتعيشون فيها للأبد، ولن تموتوا، ولن تهرموا، {وَأَنْتُمْ فِيهَا خَالِدُونَ}، لا موت، ولا هرم، ولا مرض.
{وَتِلْكَ الْجَنَّةُ الَّتِي أُورِثْتُمُوهَا بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ}[الزخرف: الآية72]، {وَتِلْكَ الْجَنَّةُ الَّتِي أُورِثْتُمُوهَا}؛ لأن الله يُمَلِّكُهم، يُمَلِّكُهم القصور، يُمَلِّكُهم المزارع، البساتين، يُمَلِّكُهم الشيء العجيب فيما أعده لهم، {فَلَا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَا أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ}[السجدة: من الآية17]، نعيم يفوق كل تصور، كل خيال، وأكبر من كل ما يتمناه الإنسان، ليس هناك في الدنيا شيءٌ يسد طمع الإنسان، أو رغبة الإنسان، (لو كان لابن آدم واديان من ذهب، لابتغى لهما ثالثاً)، لكن الذي أكبر من كل ما يتمناه الإنسان هو في الجنة، هو في الجنة.
والإنسان هناك ليس فقط يعيش هكذا كمجرد ضيف لا يملك الأشياء، وقد يتحرج من أن يطلب بعض الأشياء، يراها ويرغب بها، أو يتحرج من كثرة ما يطلب، أعطوا لي من هذا، ومن هذا، ومن هذا، هو يُمَلَّك، {أُورِثْتُمُوهَا}، تصبح تلك قصورك، وتلك بساتينك، وتلك مزارعك، وتلك الأشياء لك… وهكذا، فيما أعده الله في عالم الجنة من الأشياء العجيبة، وبتكريم، يقال لك: هذا عملك، هذا جهادك، هذا صبرك، هذا إنفاقك، هذا عطاؤك، هذه ثمرة جهودك، هذا من التكريم الكبير لهم، من التكريم العظيم لهم.
{لَكُمْ فِيهَا فَاكِهَةٌ كَثِيرَةٌ}[الزخرف: من الآية73]، أصنافها كثيرةٌ جدًّا، وهي وافرة، لا تنفد، ولا تنقطع، ولا تتوقف، وفواكه الجنة من أعظم النعيم فيها؛ لأنها بالنسبة لها كثيرةٌ جدًّا، ورائعةٌ جدًّا، ولذيذةٌ جدًّا، وجميلةٌ جدًّا، وهي من أحسن ما يطيب للإنسان كغذاء، {مِنْهَا تَأْكُلُونَ}[الزخرف: من الآية73]، وهي وافرة وكثيرة، ولا تنقطع أبداً.
حياة سعيدة، هنيئة، وسرورٌ وفرحٌ واستبشارٌ لا ينتهي، يدوم ويبقى، يتجدد ولا ينفد، هو النعيم العظيم.
والتقوى هي وسيلة الفوز للوصول إلى ذلك النعيم العظيم، والإنسان سيدرك عندما يتوفق بهذا التوفيق الإلهي الكبير، أنه في الواقع مهما كان حجم ما قد عاناه في هذه الدنيا، أو تعب منه، أو ضاق منه، ليس شيئاً في مقابل ما سيحصل عليه، وما حصل عليه عندما يصل إلى ذلك النعيم العظيم.
ولو خسر الإنسان هذا النعيم العظيم، ودخل إلى النار والعياذ بالله، فرَّط في تقوى الله “سبحانه وتعالى”، سيدرك أن كل شيءٍ في هذه الدنيا ما كان يستحق منه أن يفرِّط في هذا النعيم العظيم.
وفي الجنة يرتاح أهل الجنة، يتلاقى الأصدقاء فيها في أطيب مستقر، في مجالسها الرائعة جدًّا، يشربون من شرابها، يستذكرون أحوالهم في الدنيا، يدركون كم كان للعلاقة القائمة على التقوى، وللنصح، وللتعاون على البر والتقوى، من أهميةٍ فيما وصلوا إليه، فيما فازوا به.
فلذلك يحرص الإنسان على ألَّا يصرفه شيءٌ عن تقوى الله “سبحانه وتعالى”، يتحرك الإنسان مثلما قال الله: {الَّذِينَ آمَنُوا بِآيَاتِنَا وَكَانُوا مُسْلِمِينَ}[الزخرف: من الآية69]، وفق آيات الله، يهتدي بهدى الله، يقبل بهدى الله، يقبل بتوجيهات الله، يقبل بأوامر الله “سبحانه وتعالى”، فيلتزم، ويطيع، لا يصرفه شيء، لا أخلاء الهوى، ولا رغبات وأهواء النفس.
نكتفي بهذا المقدار…
نسأل الله “سبحانه وتعالى” أن يوفِّقنا وإيَّاكم لما يرضيه عنا؛ حتى نصل إلى ذلك النعيم العظيم، والفوز العظيم، أن يوفِّقنا وإيَّاكم لما يرضيه عنا، وأن يرحم شهداءنا الأبرار، وأن يشفي جرحانا، وأن يفرِّج عن أسرانا، وأن ينصرنا بنصره، إنه سميع الدعاء.
ونسأله أن يتقبل منا ومنكم الصيام، والقيام، وصالح الأعمال، إنه سميع الدعاء.
وَالسَّـلَامُ عَلَـيْكُمْ وَرَحْـمَةُ اللهِ وَبَرَكَاتُه؛؛؛