المحاضرة الرمضانية الثالثة عشرة للسيد عبدالملك بدرالدين الحوثي 1440 هـ

 

مركز وسائط أنصار الله 13 ــ رمضان ــ 1440 هـ

أعوذ بالله من الشيطان الرجيم

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمدُ للهِ ربِ العالمين، وأشهدُ أنَّ لا إلهَ إلا اللهُ الملكُ الحقُ المبينُ، وأشهدُ أنَّ سيدَنا محمداً عبدُه ورسولُه خاتمُ النبيين.

اللهم صلِّ على محمدٍ وعلى آل محمد، وبارك على محمدٍ وعلى آل محمد، كما صلَّيتَ وباركت على إبراهيم وعلى آلِ إبراهيم إنك حميدٌ مجيد.

وارض اللهم بِرضاكَ عن أصحابِه الأخيارِ المُنتجبين وعن سائرِ عِبادِك الصالحين.

أيها الأخوةُ والأخوات، السلامُ عليكم ورحمةُ الله وبركاته..

وتقبّلَ اللهُ مِنّا ومِنكم الصيامَ والقيامَ وصالحَ الأعمالِ، اللهم اهدنا وتقبل منّا إنكَ أنتَ السميعُ العليم، وتُب علينا إنك أنت التوابُ الرحيم.

 

استكمالاً لحديثِنا في المحاضراتِ الماضيةِ بالأمسِ وما قبلَ الأمس، على ضوءِ الآياتِ المباركةِ التي نستفيدُ منها الكثيرَ من الدروسِ المهمةِ فيما يتعلقُ بالجانبِ الاقتصادي والذي له أهميتُه الكبيرةُ في حياتِنا كَبشر، وفي واقعِنا العملي وحتى في التزامِنا الإيماني والديني، ونجدُ أنَّ القرآنَ الكريمَ يقُدِّمُ معالجاتٍ مهمةً جداً وأساسيةً وفعّالةً ومُؤثرةً ومُفيدةً لمشكلةِ الفقر بما يساهمُ بالتخفيفِ وكذلك بالعملِ على المعالجاتِ التي تَحدُّ من البؤسِ والعناءِ والشقاءِ والفقر.

اللهُ سبحانه وتعالى عندما قالَ في الآيةِ المباركة {وَلا تَقتُلوا أَولادَكُم خَشيَةَ إِملاقٍ ۖ نَحنُ نَرزُقُهُم وَإِيّاكُم}(الإسراء ـ 31)، قدَّمَ أولَ معالجةٍ مهمةً جداً، وهي المعالجةُ للواقعِ النفسي، الخَشيةُ من الفقرِ، والخوفُ من الفقرِ، والقلقُ من الفقرِ، هذا العاملُ النفسي بحدِّ ذاتِه يؤثرُ على الكثيرِ من الناس، ويَدفعُهم إلى تصرفاتٍ إجراميةٍ في كثيرٍ من الحالات، أو يدفعُهم إلى ارتكابِ الخياناتِ والأفعالِ المحرَّمةِ والتصرفاتِ الخاطئة، فالعاملُ النفسي المتمثلُ بالقلقِ من الفقرِ، أو حالةِ اليأسِ وانعدامِ الأملِ تُمثِّلُ مشكلةً بحدِّ ذاتِها، والإنسانُ إذا امتلكَ الأملَ والثقةَ باللهِ سبحانه وتعالى والاطمئنانَ النفسي تجاهَ الرزقِ هذا سيساعدُه لأن ينطلقَ في ميدانِ العملِ في الأخذِ بالأسبابِ من واقعٍ نفسي متوازنٍ ومُطمئِن، الحالةُ القلقةُ حالةُ اليأس، الاضطرابِ النفسي الشديد، الهمِّ القاتل، الهمِّ الكبير، الضغطِ النفسي الشديدِ يُؤثرُ على الكثيرِ من الناسِ، وبالذات إذا كانت طبيعةُ الأسرةِ مُقلِقةً، مثلا البعضُ طبيعةُ زوجتِه مُقلِقةً جداً، تطالبُه بإلحاحٍ شديدٍ وتضغطُ عليه بشكلٍ متكررٍ وتُبدي انزعاجَها الشديدَ وتُطلِقُ العباراتِ الجارحةَ والعباراتِ المُحَطِّمةَ والعباراتِ المُزعِجةَ والمستفزِّةَ، والأولادُ بعضُهم كذلك فيعيشُ البعضُ من الناسِ في هذا الجوِ الضاغطِ المُقلِقِ المُزعِج، ويندفع بُغيةَ توفيرِ المالِ بُغيةَ توفيرِ المُتطلبَات التي تطالبُ بها أسرتُه لِفعلِ أي شيئٍ، قد يكونُ جريمةً، قد يكونُ خيانةً، قد يكونُ فِعلاً مُحرَّمَا، وهذه حالةٌ خطيرةٌ جدا.

والإنسانُ المُؤمِن، الإنسانُ المُسلِم حظيَ في القرآنِ الكريمِ برعايةٍ وهدايةٍ واسعةٍ، جانبٌ منها يتجهُ إلى هذا الجانب النفسي الحسَّاس والمهم بالأول هو، فالله جلَّ شأنُه عندما قال {نَحنُ نَرزُقُهُم وَإِيّاكُم}(الإسراء ـ 31)، هذه طَمأنةٌ كبيرة، اللهُ تكفَّل سبحانه وتعالى بالرزق، لا تحمل هذا الهمَّ وكأنَّكَ أنتَ الرزاقُ، كأنَّك أنت مَن يَرزُقُ نفسَك ويَرزُقُ أسرتَك ويَرزُقُ أولادَك ويَرزُقُ الآخرين، هذا إلى الله، هذا إلى ربِّنا سبحانه وتعالى الكريمِ الغني الحميدِ الوهابِ المنَّانِ ذي الفَضلِ الواسعِ  العظيم، لا تُقلقْ نفسَكَ بشكلٍ زائد، لا تُرهِقْ نفسَك بالهَمِّ والحَسَرات، لا، اطمئنْ، وخُذْ بالأسبابِ الصحيحةِ، خُذْ بالأسبابِ الصحيحةِ وتقيَّدْ عندَها، ونجدُ آياتٍ كثيرةً تلاحظُ هذا الجانبِ النفسي مِثلَ قولِ الله سبحانه وتعالى فيما يحكيه عن نبيه إبراهيم وهو يخاطب قومه {فَابتَغوا عِندَ اللَّهِ الرِّزقَ}(العنكبوت ـ 17)، ابتغوا عند الله، ابتغوا عنده من خلال الالتجاء إليه، مِن خلالِ الأخذِ بالأسبابِ، أسبابِ رحمتِه، أسبابِ فضله، أسبابِ رضوانه، أسبابِ نَيلِ الخيرِ منه، {فَابتَغوا عِندَ اللَّهِ الرِّزقَ}(العنكبوت ـ 17)، نجدُ في القرآنِ الكريمِ كذلك الوعدَ الإلهيَ المُقتَرنَ بالتقوى، {وَمَن يَتَّقِ اللَّهَ يَجعَل لَهُ مَخرَجًا * وَيَرزُقهُ مِن حَيثُ لا يَحتَسِبُ}(الطلاق ـ 2،3)، نجدُ مثلَ قولِ اللهِ سبحانه وتعالى {سَيَجْعَلُ اللَّهُ بَعْدَ عُسْرٍ يُسْرًا}(الطلاق ـ 7)، فالقرآنُ يعُزِّزُ الأملَ والاطمئنانَ والثقةَ باللهِ سبحانه وتعالى، وإذا عِشتَ في مرحلةٍ معينةٍ ظروفاً صعبةً نتيجةَ واقعٍ مُعيَّنٍ أو ظروفٍ مُعيَّنَةٍ على مستوى واقعِك الشخصي أو على المستوى العام تَعتبرُ أنَّها قد تكونُ مرحلةً قد تكونُ ظروفاً مُعيَّنَةً وقد تَعْبُرُ منها وقد تتجاوزُها، وقد تكونُ حالةَ اختبارٍ بحدَّ ذاتِها، هل ستَثْبُت عندَ تلك الظروف؟، قد يكونُ لها أسبابٌ مُعيَّنَةٌ، تقصيرٌ في الأخذِ بأسبابٍ عمليةٍ لكسبِ الرزقِ والحصولِ على الرزق، فالمعالجةُ الأولى في الإسلامِ والقرآنِ الكريم وفي توجيهاتِ اللهِ سبحانه وتعالى تأتي إلى الواقعِ النفسي، وهذه معالجةٌ في غايةِ الأهمية، وإذا عَمِلَ الإنسانُ استقصاءً لكثيرٍ من الجرائمِ والخياناتِ والتصرفاتِ المحرَّمةِ التي هي بهدفِ الحصولِ على  المالِ أو الحصولِ على متطلباتٍ ماديةٍ مُعيَّنَةٍ فأولُ وأكبرُ عاملٍ فيها هو القلَقُ النفسي، هو الاضطرابُ، هو الضغطُ النفسي، هو اليأسُ الذي لدى البعض، فيتجه لوسائلَ وبدائلَ محرَّمة، الإنسانُ الذي يعيشُ الأملَ، الثقةَ باللهِ سبحانه وتعالى، هذا يجعلُه حتى محطَّ رعايةٍ من الله، محطَّ رعايةٍ وفضلٍ من اللهِ، أن يَرحمَه اللهُ، أنْ يُغيثَه اللهُ، أن يُعينَه اللهُ، كيف يَترُكُ اللهُ مَن يَثقُ بهِ مَن يتوكلُ عليه مَن يأملُ فضلَهُ مَن يرجو رحمتَه؟ هو أكثرُ مِن أن يترُكَ إنساناً في هذا أن يُهملَهُ، أن لا يلتفتَ إليهِ وهو يلتجئُ إليهِ مِن هذا الواقعِ الإيماني، فبالالتجاءِ إلى الله، والأملِ بالله، والدعاءِ مع الصبرِ مع القناعة، لأنَّ البعضَ مُشكلتُهم أيضاً أنَّهم يفتقدونَ القناعةَ لا يَمتلكونَ القناعةَ، يعيشون حالةً مِن  الطَمعِ الكبيرِ والآمالِ والطموحاتِ الكبيرةِ ولا يُقدِّرون الظروفَ والمراحلَ، يأتي إلى مَرحلةٍ حسَّاسةٍ أو صَعبةٍ أو مُهمةٍ ويريدُ أن يعيشَ فيها حالةَ الرفاهيةِ، أن يمتدَ في توفيرِه وفي ما يحصلُ عليه إلى أشياء هامشيةٍ شكليةٍ، أشياء ليست في قائمةِ الضروراتِ، الأشياءِ الضرورية، وإنما في قائمةِ الرفاهيةِ والسِعةِ الزائدة، ولا يقدِّر للظروفِ تقديرَها.

المعالجةُ الثانيةُ في الإسلامِ هي الإغاثةُ الخيريةُ، اللهُ سبحانه وتعالى جَعلَ في الجانبِ الخيري عناوينَ متعددةً، البعضُ منها إلزاميةٌ والبعضُ منها تطوعيةٌ، الحالةُ الإلزامية الزكاة، تَقدَّمَ الحديثُ عنها، وهي حالةٌ إسعافيةٌ مهمةٌ للفقيرِ، وقد تُفيدُه في كثيرٍ من الحالاتِ بأكثرَ مِن كونِها حالةً إسعافيةً وجُرعةً إغاثيةً إلى كونِها أيضاً تُمثِّلُ عاملاً مساعداً لبناءِ واقعهِ الاقتصادي من جديدٍ لكي يستطيعَ أن يتخلصَ من البؤسِ الشديدِ والعناءِ الكبيرِ مِن الفقر.

أيضاً الصَدَقةُ، وهي عنوانٌ تطوعيٌ، فيها أجرٌ وفضلٌ وقُرْبَةٌ عظيمةٌ إلى الله سبحانه وتعالى وسببٌ لأن يَحصُلَ الإنسانُ على سعةِ الرزقِ على خُلْفٍ مِن الله، أن يَخلِفَ اللهُ لك، وهي سببٌ مِن أسبابِ البركاتِ واستنزالِ الرزق، “اسْتَنْزِلُوا الرِّزْقَ بِالصَّدَقَةِ”.

أيضاً الحالةُ التكافليةُ والتضامنيةُ بينَ أبناءِ المجتمعِ، الجارُ مع جارِه، القريبُ مع قريبِه، هذه الحالةُ أيضاً حالةٌ مُهمة، في الروايةِ عن رسول الله صلواتُ اللهِ عليهِ وعلى آلِه “مَا آمَنَ.. قيل من يا رسول الله، قالَ مَنْ بَاتَ شَبْعَاناً وَجَارُهُ جَائِعٌ إِلَى جَنْبِهِ وَهُوَ يَعْلَمُ”.

إذن هذه حالةٌ من التضامنِ الإلزامي، الإلزامي في الدين، أي مسؤولية إيمانية دينية، يُوجب عليك الإسلامُ التعاطفَ مع جَارِك، وأن لا تبيتَ شبعاناً وجارُك جائعٌ وأنت تَعلَمُ أنهُ جائعٌ وتستطيعُ مساعدتَه ثم لمْ تساعدْهُ، تُعتبرُ هذه جريمةً وخُروجاً عن حالةِ الإيمانِ الذي يُربينا على الرحمةِ فيما بيننا كمجتمعٍ مسلم.

نجدُ التشجيعَ على الاهتمامِ مثلاً بالإطعام، لأنَّ البعضَ قد يصلُ بِهمُ الفقرُ والبؤسُ إلى حدِ الجُوعِ، فيأتي في القرآنِ الكريم الحثُّ المُتكررُ على الإطعام، إطعامِ الجائعين في آياتٍ كثيرة، عندما نجدُ قولَ اللهِ سبحانه وتعالى {فَلَا اقتَحَمَ العَقَبَةَ * وَما أَدراكَ مَا العَقَبَةُ * فَكُّ رَقَبَةٍ * أَو إِطعامٌ في يَومٍ ذي مَسغَبَةٍ * يَتيمًا ذا مَقرَبَةٍ * أَو مِسكينًا ذا مَترَبَةٍ}(البلد ـ 11:16)، ذلك العربي الذي يُفاخِرُ ويتباهى بأنه يُهلِكُ الكثيرَ من أموالِه يقول {أَهلَكتُ مالًا لُبَدًا}(البلد ـ 6)، يتفاخرُ بما يُضيّعهُ من المالِ في أشياءٍ تافهةٍ أو أشياءٍ محرَّمةٍ، لماذا لم يُسخِّرْ مالَهُ في ما هو شرَفٌ، في ما هو فضلٌ، في ما هو أجرٌ، في ما هو قُربَةٌ عاليةٌ عندَ اللهِ سبحانه وتعالى، في ما فيهِ خيرُ الدنيا وشرفُها وأجرُ الآخرةِ ونعيمُها؟، وهو هذا {فَكُّ رَقَبَةٍ * أَو إِطعامٌ في يَومٍ ذي مَسغَبَةٍ}(البلد ـ 13،14)، في المراحلِ التي فيها مجاعةٌ ومعاناةٌ لهذهِ الدرجةِ، إما الأيتامُ وهم فئةٌ محتاجةٌ وفقيرةٌ وإمّا المساكين، {ثُمَّ كانَ مِنَ الَّذينَ آمَنوا وَتَواصَوا بِالصَّبرِ وَتَواصَوا بِالمَرحَمَةِ}(البلد ـ 17)، التواصي بِالمَرحَمَةِ، المجتمعُ المسلمُ يجبُ أن يكونَ مجتمعاً مُتراحِماً متعاونِاً يُغيثُ بعضَه بعضاً، يُغيثُ بعضَه بعضاً، لا يتفرجُ الناسُ على البؤسِ في أوساطِهم وفي واقعِهم.

ثم نجدُ مع هذا الجانبِ الخيري ـ الذي فيه صِلةُ الرَحِمِ ورعايةُ القريبِ وتعاونُ الجارِ مع جَارِه والصاحبِ مع زميلِه ومع المجتمعِ بشكلٍ عام في ما بينَه ـ الحثَّ على الإحسانِ كعنوانٍ عام، الإحسانُ وما أدراكَ ما الإحسان؟، {وَأَحْسِنُوا ۛ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ}(البقرة ـ من الآية 195)، وهذه الروحيةُ التي يجبُ أن تكونَ روحيةً عامةً في ما بيننا كمجتمعٍ مُسلمٍ، نُحسِنُ إلى بعضِنا البعض، يُغيثُ ذو السِعةِ مِنّا الملهوفَ والفقيرَ والمحتاجَ، يُساعدُ بعضُنا بعضاً في مختلفِ الظروفِ والحالات.

مثلاً قد يكونُ البعضُ يعيشُ حالةً لا بأس، حالةَ سِتْرٍ في توفيرِ احتياجاتِه الغذائيةِ لأسرتِه، ولكن عندما يُعاني مَثلاً مِن مُشكلةِ مرضٍ، إمّا يمرضُ هو أو تمرضُ زوجتُه، أو حالةُ ولادةٍ لزوجتِه أو مريضٍ من أقربائِه أو مِن أولادِه تُمثِّلُ مشكلةً، ظروفُه الماديةُ صعبةٌ لا يستطيعُ أن يُغطيَ بها تكاليفَ العلاج، حالةٌ طرأتْ في واقعِه تفوقُ قدرتَه المادية، مثلُ هذه الحالةِ يجبُ فيها التعاونُ، الإحسانُ، المُساعدة، حالةُ الزواج، البعضُ يفتقرُ من الشبابِ إلى الزواج ولكن ظروفَه الماديةَ متعسرةٌ، في مِثل هذه الحالةِ يتعاونُ الناسُ، وعنوانُ التعاونِ هو من أهمِ العناوينِ في الإسلامِ، ومن أهمِها وأعظمِها أثراً وبرَكةً، إذا كان المجتمعُ متعاوناً في ما بينَه يستطيعُ بالتعاونِ أن يُغطيَ حالاتٍ كثيرةً احتياجاتٍ كثيرةً، مثلاً عندما أتعاونُ أنا وأنتَ والآخرُ ونَجمعُ مبلغاً معيناً، هذا المبلغُ الذي جَمعناهُ مِن مجموعةٍ من الناسِ قد نستطيعُ أن نُساهمَ به في زواجِ مُحتاجٍ للزواج فقير، ويمثلُ مساهمةً فعليةً وحقيقيةً أكثرَ من التعاونِ الفردي، التعاونُ الجماعيُ مهمٌ جداً، ويستطيعُ أن يُعالجَ كثيراً من المشاكلِ وبطريقةٍ مُيَسَرَةٍ، لأنها تتباركُ عندما يجتمعُ مبلغٌ مِن هذا ومِن هذا ومِن هذا، كلَّما كانَ العددُ أكثرَ كانَ المبلغُ أكثرَ، تكونُ النتيجةُ مفيدةً ومؤثرةً، هذه الحالةُ من  التضامنِ والتعاونِ هي حالةٌ إنسانيةٌ أخلاقيةٌ إيمانيةٌ إذا كانت بدافعٍ إيماني، ومهمةٌ  جداً، ومؤثرةٌ في الواقع، تعالجُ الكثيرَ من الحالاتِ من الأزمات، من أعظمِ الأعمالِ قُربةً إلى اللهِ إغاثةُ الملهوف، إغاثةُ الملهوف، الكثيرُ من الناسِ قد يَمرُّ بظروفٍ استثنائيةٍ صعبةٍ في حياتِه جداً، عندما تتعاونُ معه أنت، عندما يتعاونُ معه المجتمعُ، هذا قُربةٌ إلى اللهِ سبحانه وتعالى، عملٌ عظيمٌ، عملٌ إيماني، حتى على التدليلِ على  الحالةِ النفسيةِ، حالةٍ إيجابية، نُفوسٍ كريمةٍ، نفوسٍ فيها الرحمةُ فيها الإغاثةُ فيها اللهفةُ بالناسِ، ليست نفوساً متوحشةً وقاسيةً، ليست قلوباً قاسيةً ومُتحَجِرَةً ومُتبَلِّدَةً لا تمتلكُ الأحاسيسَ والمشاعرَ الإنسانيةَ تجاهَ ما تلحظُه في الواقع، فهذا أيضاً جانبٌ من المعالجاتِ المُهمة، الجانبُ الخيري الذي فيه الإحسانُ فيه الزكاةُ فيه التضامنُ والتعاطفُ والتكافلُ إلى آخرِه، عناوينُ واسعةٌ قد لا نكونُ أحَطْنَا بِها في حديثِنا.

المعالجةُ الأخرى هي التركُ للمحرَّمات، الترك للمحرَّمات، المحرَّمَاتُ بشكلٍ عام لأنها تَنزِعُ البركةَ، تُسببُ سَخَطَ اللهِ، تَنزِلُ على الناسِ عُقوباتٍ كثيرةً ومنها عقوباتٌ اقتصادية، مِن أهمِ العقوباتِ التي يُعاقبُ اللهُ بها عِبادَه هي العقوباتُ الاقتصادية، عندما نُعاني مِن شُحِّ الأمطار وقُلِّ الأمطارِ، عندما نُعاني من انعدامِ البَرَكاتِ، عندما نلحظُ النَقصَ مثلاً الغَوْرَ في الماء، أشياءً كثيرة، عقوباتٍ اقتصاديةً متنوعةً، آفاتٍ تفتِكُ بالمحاصيلِ الزراعية، اشكالاتٍ كثيرةً نُعاني منها، قد تكونُ في بعضٍ من الحالاتِ عقوبةً، قد تكونُ عقوبةً مِن اللهِ سبحانه وتعالى، ونحنُ بحاجةٍ إلى رحمتِه إلى فضلِه، هو الرزاقُ، هو الذي يَملِكُ رِزقَنا، يَملِكُ كلَّ هذه الأشياء، هو الزارع جلَّ شأنُه، هو الذي يَخلقُ هذه النباتاتِ والمحاصيل، وهو الذي يمنحُها النماءَ والبركةَ، أو يفتِكُ بها إذا أرادَ ويجعلُها حُطاماً أو بائرةً، أو غيرَ صالحةٍ للاستخدام الإنساني، أو غيرَ ذلك، فإذن نحنُ بحاجةٍ إلى تَركِ المحرَّماتِ التي تُسخِطُ اللهَ سبحانه وتعالى، وتَركِ المحرَّماتِ ذاتِ العَلاقةِ بالجانبِ الاقتصادي كالرِبا، والاحتكارِ، والتصرفاتِ المحرَّمة، أكلُ الحرامِ ـ بكلِ أشكالِه وأنواعِه وتحتَ كلِ العناوين ـ قضيةٌ خطيرةٌ جداً ومؤثرةٌ جداً، الإخراجُ للحقوقِ مسألةٌ مهمةُ جداً، أشياءُ كثيرةٌ تدخلُ تحتَ هذا العنوان، وهي أيضاً تدخلُ تحتَ عنوانِ التقوى للهِ سبحانه وتعالى.

مِن المعالجاتِ المهمةِ العملُ، والسعيُ لِكَسبِ الرِزقِ وبشكلٍ صحيح، وبالالتزامِ بالحلالِ وبالدافعِ الإيماني والمسؤول، أي لا يكونُ الدافعُ هو الجشعُ والطمعُ والهلعُ والطموحاتُ غيرُ المشروعة، لا، بل يحرِصُ الإنسانُ على التصرفِ الصحيح، وهذه مسألةُ مهمةٌ جداً، المجتمعُ إذا كان مجتمعاً يُعاني من الكَسَلِ، يعاني من البطالةِ الناتجةِ أو الناشئة عن الفُتورِ وعدمِ الاهتمامِ فهذه حالةٌ خطيرةٌ جدا، نحن كمجتمعِ مُسلمٍ يجبُ أن نكونَ مجتمعاً عملياً، عملياً بما تعنيهِ الكلمةُ، ولاحظوا المُحفِّزَاتِ كثيرةٌ في مجالِ كَسبِ الرِزقِ عن طريقِ العمل، العملِ في التجارة، العمل في الزراعة، العمل في الصناعة، الأعمال في مختلفِ مجالاتِ العملِ المشروع، هذه مسألةٌ مهمةٌ جداً، لا يعترفُ الإسلامُ بحالةِ الكَسَلِ والبطالةِ الناتجةِ عنه، أو سُوءِ الفَهمِ لمعنى التوكُلِ، التوكُلُ الذي هو تواكلٌ وإهمالٌ ليسَ من التوكُلِ الذي هو في إطارِ العملِ والتحرك.

القرآنُ الكريمُ يُعلِّمُنا أن نتحركَ في واقعِ الحياة لِكَسبِ الرزقِ تحتَ عناوينَ كثيرةٍ منها أو أهمُ عنوانٍ فيها هو المسؤولية، بدءاً مِن المسؤوليةِ تجاه الأسرة “كَفى بِالمرْءِ إِثْماً أَنْ يُضَيِّعَ مَنْ يَعُولُ أو يَكونَ عِيَالاً على النَاسِ” في الحديثِ عن رسول الله صلواتُ اللهِ عليه وعلى آلِه، بمعنى عليك مسؤوليةٌ بدءاً مِن أسرتِك، أن تُنفِقَ على أسرتِك، هذه المسؤوليةُ يجبُ أن تكونَ حافزاً في السعي لكسبِ الرزقِ والحصولِ على الرزقِ وتوفيرِ متطلباتِهم الضروريةِ واحتياجاتِهم الأساسية.

عنوانٌ أكبرُ، مسؤوليتُنا العامةُ، نحنُ كأمَّةٍ مُسلمةٍ علينا مسؤولياتٌ جماعيةٌ أن نعملَ على إقامةِ الحقِّ على إقامةِ العدل، أن نكونَ قوَّامِين بالقِسط، أن نعملَ لتطهيرِ ساحتِنا من الُمنكَرِ ومِن الظُلمِ ومن الفَسادِ ومن الطُغيان، هذه المسؤوليةُ تحتاجُ إلى مالٍ، ولهذا أتى في القرآنِ الكريمِ عنوانُ الجهادِ في سبيلِ اللهِ بالمالِ والنَفْسِ، ويأتي المالُ قبلَ النَفْسِ، أن نجاهدَ في سبيلِ اللهِ بأموالِنا يأتي في الترتيبِ في كثيرٍ من الآياتِ القرآنيةِ، في كثيرٍ منها، يأتي بالحديثِ عن الجهادِ بالمالِ قبلَ الحديثِ عن الجهادِ بالنَفْسِ، لدرجةِ أنَّ آيةً قرآنيةً قدَّمتْ هذا العنوانَ، الإنفاقَ في سبيلِ اللهِ سبحانه وتعالى تحتَ عنوانٍ مهمٍ جداً جداً.

{وَأَنفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلَا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ}(البقرة ـ من الآية 195)، أي القرآنُ يقولُ لنا إذا لم نُنفِقْ في سبيلِ الله فنحنُ أمَّةً ستكونُ حَكَمَتْ على نفسِها بالهلاك، أمةً تنتهي، لماذا؟ لأنَّها لن تكونَ قويةً بدونِ أن تُنفِقَ مَالاً، أي لا يُمكنُ مثلاً أن نتحرَكَ لمواجهةِ التحدياتِ والأخطار،ِ وأن نَدفعَ الخطرَ عن أنفسِنا كأمةٍ مُسلمةٍ، خطرَ أعدائِنا عسكرياً، خطرَهُم بشكلٍ عامٍ تحتَ كلِ العناوينِ والمجالاتِ، وفي كل المجالات، لا يُمكنُ مِن دُونِ أن نُنفِقَ مَالاً، كلُ تحركٍ في هذه الحياةِ يحتاجُ إلى مَال، تُريدُ أن تتحركَ عسكرياً هذا يحتاجُ إلى مَال، تريدُ أن تتحركَ إعلامياً تحتاجُ إلى مَال، الحركةُ في الحياةِ، حركةُ الإنسان، المالُ هو قيامٌ للحياةِ، تقومُ بهِ الحياةُ في كلِ مجالاتِها وفي كلِ مَيادينِها، لا بُدَّ من عمليةِ تمويلٍ لكلِ تَحرُكٍ، عملياتُ التمويلِ هذه تحتاجُ إلى إمكاناتٍ، الإمكاناتُ هذه كيف تأتي؟ مِن خلالِ العملِ، الكسبِ، السعي، التحرك، {ولَا تَتَمَنَّوْا مَا فَضَّلَ اللَّهُ بِهِ بَعْضَكُمْ عَلَى بَعْضٍ لِلرِّجَالِ نَصِيبٌ مِمَّا اكْتَسَبُوا وَلِلنِّسَاءِ نَصِيبٌ مِمَّا اكْتَسَبْنَ وَاسْأَلُوا اللَّهَ مِنْ فَضْلِهِ}(النساء ـ من الآية 32)، لا نتحولُ إلى أمَّةٍ تمتلكُ الأماني، يتمنى الإنسانُ أنَّ لديهِ مَا لدى الآخر، أو أن يُحصِّلَ مِن الثروةِ هكذا تلقائياً مِن دُونِ عناءٍ ولا عَمَلٍ مثلَما لدى الآخر، أو هكذا، اِكتَسِبُوا، اِعْمَلُوا، هذه مسألةٌ مهمةٌ جداً، وفي سِيرةِ الرسولِ صلواتُ اللهِ عليه وعلى آلِه بعدَما وَصَلَ إلى المدينةِ حَرِصَ على توسيعِ النشاطِ الزراعي وشجَّعَ المُسلمين على الزراعةِ، وزرعوا مساحاتٍ إضافيةً واسعةً بالنخيلِ، والبعضَ بالقمح، لدرجةِ أنَّ المساحةَ ـ كما في بعض الكتب ـ المساحةَ التي كانت تُزْرَعُ مِن المدينةِ في عَصْرِ رسولِ اللهِ صلواتُ اللهِ عليه وعلى آلِه قبلَ 1400 سنة هي أكثُر مِن المساحةِ التي تُزرَعُ اليومَ في عَصْرِ التطورِ والإمكاناتِ الهائلةِ والإمكاناتِ الماديةِ، مِن المساحاتِ التي تُزرَعُ اليومَ في المدينةِ نَفسِها، المدينةِ المُنّوَّرَة، شجَّعَ على هذا الجانب.

أيضاً كانت الأسواقُ تحتَ سيطرةِ اليهودِ في المدينةِ، بعدَما هاجرَ الرسولُ إلى المدينةِ صلواتُ اللهِ عليه وعلى آلِه، شجَّعَ المُسلمينَ على العملِ التِجاري، وجاءَت المواجهةُ مع اليهودِ وطُرِدُوا وعادَ المُسلمون هم، حَضَرُوا إلى الأسواقِ واشتغلوا في التجارةِ، وهكذا عَمِلَ المسلمون حتى في التصنيع، بما في ذلك التصنيعُ الحربي، التصنيعُ الحربيُ اشتغلوا عليهِ ووَصلوا إلى صِناعةِ ما يُسمَّى آنذاكَ بـ “الدَبَّابَة” وهي آلةٌ تُصنَعُ من الجُلودِ يستفيدُ منها المحاربون للتقدُّمِ مُتمترِسينَ بها لِدفَعِ خَطرِ السِهام مِن جانبِ العدو، وسُمّيَتْ في ذلك الزمنِ بـ “الدَبَّابَة”.

التصنيعُ الحربي، التصنيعُ لآلاتِ الزراعة، التصنيعُ في العالمِ الإسلامي آنذاك، حتى في العصرِ الأولِ كانَوا يصنعونَ الثيابَ، وهُنا في اليمن كانَ اليمنُ مِن أهمِ البُلدانِ الصناعيةِ، كانَ اليمنُ يَصنَعُ الحديدَ ويَستخرِجُ الحديدَ ويَصنَعُ مِنهُ الآلاتِ الحربيةَ والآلاتِ الزراعيةَ، كانَ اليمنُ يُصدِّرُ هذه الآلاتِ والمُعدَّاتِ إلى الجزيرةِ العربيةِ ومناطقَ أخرى.

صناعةُ الثيابِ في اليمن، مِن أهمِ الصناعاتِ التي كانت مُنتشرةً وقويةً بشكلٍ كبير، وكانت تُصدَّرُ من اليمن إلى بقيةِ المناطق، صناعةُ الثيابِ بأنواعِها، وهكذا كثيرٌ من الصناعاتِ في ذلك الزمنِ كانت قائمةً في العالَمِ الإسلامي وفي المنطقةِ الإسلاميةِ بالذات بعدَ فَترةٍ مِن تَمَكُنِ الإسلامِ وانتشارِه، فالعملُ والتحركُ تحت عنوان {وَأَعِدُّوا لَهُم مَّا اسْتَطَعْتُم مِّن قُوَّةٍ}(الأنفال ـ من الآية 60)، يُمثِّلُ حافزاً مهماً وكبيراً في الاهتمامِ بالجانبِ الاقتصادي، مع السياساتِ المُهمةِ في الحَذرِ مِن التبذيرِ، في السعي للتوفير، للتوفير، في ترشيدِ الإنفاق، والاقتصارِ على الأشياءِ المُهمةِ في التركيزِ على الأولوياتِ في كلِ مرحلة، أولويات كل مرحلة.

العنايةُ بالتعليمِ الصحيح، العناية بالحرف والمِهَن، التعليم المهني وتطويره، هذه أمور يجب التركيز عليها والعناية بها والاستفادة منها، اكتساب الخبرات في مختلف الأعمال، ومجالاتُ العملِ واسعةٌ في هذا الزمن، تجدُ مثلاً في مجالاتٍ معُيَّنةٍ هناك أزمةٌ فيها، أزمةٌ في توفيرِ الكادَرِ العَامِلِ فيها، تجدُ مثلاً على مستوى المُهندسين الزراعيين قِلَّةٌ قليلةٌ من الذين يمتلكونَ هذه الخبرةَ، والشَعبُ بحاجةٍ إليهم، مجالاتُ عملٍ أخرى يُمكنُ دِراستُها في المعاهِد المِهنيةِ، مع تطويرِ المَعاهدِ المهنيةِ حتى في مناهجِها.

مجالاتُ عَملٍ واسعةٌ، مجالُ التصنيعِ في كلِ مَساراتِه على المستوى الحربي، على المستوى الطِبّي والصِحي، على بقيةِ المَساراتِ في مُختلفِ أغراضِ الحياةِ ومُتطلباتِها، مجالاتٌ واسعةٌ، الزراعةُ وغيرُها.

وهكذا مجالاتٌ كثيرةٌ لا يزالُ فيها أزمةٌ ونقصٌ حاد، أحياناً يتزاحمُ الناسُ في مجالٍ مُعيَّنٍ وأحياناً لا يَحظى الناسُ بالتأهيلِ اللازم، مثلاً يَخْرُجُ الكثيرُ من العُمَّالِ لِلعْرَضِ للعملِ ويتكدَّسُون في شارعٍ هنا أو شارعٍ هناك في صنعاءَ أو في تعز أو في الحُديدة يَعرِضُون أنفسَهم للعمل، لكن خبراتِهم المحدودةَ في مجالِ العمل قد تتركُهم في حالةٍ مِن البطالةِ، لأنَّ أكثرَ العُمَّالِ يُتقنون أعمالاً بسيطةً محدودةً معينة، لكن عندما يتأهلُ الناسُ في مجالِ العملِ يكتسبونَ الخِبراتِ يستطيعُ أن يعملَ في هذا المجالِ، وذلك في هذا المجال، وذلك في هذا المجال، فهناك مجالاتٌ يُواجِهُ الناسُ فيها شُحَّاً في اليَدِ العاملِةِ فيها، لأنَّها تحتاجُ إلى خِبراتٍ وتأهيل، وهذا الجانبُ مهمٌ رَبطُ التعليمِ بالإنتاجِ، بالنهضةِ الاقتصادية، بالعملِ في مختلفِ مجالاتِ العمل، هذا مُهمٌ جداً، وأن يخرُجَ الناسُ من الحالةِ الروتينيةِ في التركيزِ على الوظيفةِ، مِن التعليمِ على الوظيفةِ والوظيفةِ الإداريةِ والمكاتب، هذه ليست حالةً صحيحةً أبداً، لا يُمكنُ أن يجتمعَ كلُ الشعبِ في مكاتب، مَنْ يَزرع؟ مَن يصنع؟ من يبني؟ من يَعمُر؟ من يكونُ طبيباً، مَن يكونُ؟ بقيةُ مجالاتِ الحياةِ الواسعةُ جداً، رُبَّما كثيرٌ مِن الناسِ يَدفعُهم الكَسلُ، والكَسلُ آفةٌ، آفةٌ وسَلبيةٌ شنيعة، الحافزُ على البناءِ للأمةِ والنهضةِ يُساعدُ الإنسانَ أن يكونَ طموحُه طموحاً بنَّاءاً، ما الذي سينفعُ فيه؟ قد يكونُ اللهُ قد أودعَ فيكَ طاقاتٍ مُعيَنةً، ولِلعِلم الرِزقُ لا يأتي فقط مِن خارج، أولُ مسألةٍ في الرِزقِ هي ما رزَقَكَ اللهُ بهِ ـ لاحظوا معي ـ ما رزَقَكَ اللهُ بهِ من طاقاتٍ وقُدراتٍ إذا اكتشفتَها وأخرجتَها وفَعَّلْتَها ونَمَّيتَها هي التي ستشتغلُ بها في نهايةِ المَطافِ، ومِن هنا بَدأتْ عمليةُ التوزيعِ الإلهي للرِزق، في ما هيَّأَ اللهُ به النفوسَ، وفي ما أودعَ في بني البشرِ من طاقاتٍ وقدراتٍ كامنةٍ متنوعةٍ ومتعددةٍ تُعْمَرُ بها الحياةُ وتتنوعُ بها مجالاتُ العمل، هذه نقطةٌ مهمةٌ جداً، بمعنى هيَّأَ اللهُ الناسَ لأعمالٍ مختلفةٍ ومتنوعةٍ.

ذلك إنسانٌ مثلاً قد يُفيدُ جداً في المجالِ الزراعي، لماذا؟، لأنَّ اللهَ أودعَ فيهِ في مَكامنِ نَفسِه حتى في رغبتِهِ النفسيةِ ومُيولِهِ النفسيةِ وقُدراتهِ التي أودعَ اللهُ فيهِ مَا يُناسبُ هذا المجالَ.

في مجالِ التجارةِ، في أنواعِها المختلفة، البعضُ مهيَّأٌ في ذلك المجالِ نفسياً في قدُراتِه في تفكيرِهِ في رغباتِهِ في مُيولهِ في ما أودعَ اللهُ فيهِ من قُدراتٍ كامنة، البعضُ في ذلك المجال، البعضُ في ذلك المجال، في مجالاتِ الحياةِ المختلفة.

البعضُ في المجالِ العسكري، البعضُ في المجالِ الإعلامي يمتلكُ اللسانَ والبيانَ والقدرةَ في التعبيرِ والتوضيحِ والتَبيين إلى آخرِه، “اعْمَلُوا وَكُلٌّ مُيَسَّرٌ لِمَا خُلِقَ لَهُ”، هذا العملُ الذي يتحدثُ عنه النصُ المَروّيُ عن الرسولِ صلواتُ اللهِ عليه وعلى آلِه لا يعني القِسمةَ بينَ عملِ الخيرِ والشرِ أبداً، المطلوبُ مِنّا جميعاً هو العملُ في الخير {لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا}(الملك ـ من الآية 2)، ولكنه العملُ في مجالاتِ الحياة.

البعضُ مهيَّأٌ للعملِ في الصناعةِ، يتجلى فيه منذُ طُفولتِه ذلك، طفلٌ عِندهُ رغبةٌ أن يُهندِسَ ويَشتغلَ في مَجالِ الهندسةِ ويَبتكرَ، ويكادُ أن يخترعَ، البعضُ وهو في مرحلةِ الطفولةِ.

كلُ إنسانٍ أودعَ اللهُ فيهِ ـ قبل أن نقولَ عن توزيعِ الأرزاقِ خَارِجَهُ في الدنيا هذهِ مِن هناك ومن هناك ـ في داخله أودعَ اللهُ فيهِ قُدرةً خِبرةً أو قُدراتٍ كامنةً، ميولاً نفسيةً تُهيئهُ إذا اتجهَ في مَيدانِ الحياةِ وفي مجالِ الحياةِ في مَسارٍ مُعينٍ قد يُفيدُ فيه.

البعضُ هو طبيبٌ، طبيبٌ الطِبُّ في نفسِه كانَ طاقةً، كانَ رغبةً، كان قُدرةً كامنةً، دَرَسَ تَأهَلَ يُبدِعُ يُتقِنُ يُحقِقُ اللهُ على يديهِ النتائجَ العجيبةَ المُبْهِرَةَ.

هل نحنُ كشعبٍ يمني لا نمتلكُ هذه القدراتِ الكامنة؟، لا، ليسَ الأمرُ كذلك، نحنُ نمتلكُ، لا يُمكنُ القولُ إننا شعبُ فقيرٌ ذاتياً في ما أودعَ اللهُ في النفوسِ من الطاقاتِ والقُدرات، هناك الكثيرُ جداً، حتى نسبةِ حالةِ الذكاءِ نسبةٌ مُنتشرةٌ في الواقعِ اليمني نسبةٌ عاليةٌ، ويتأهلُ الكثيرُ، وهناك شخصياتٌ وكوادرُ وكفاءاتٌ اشتغلتْ في الهِجرةِ في الغُربَةِ في دُولٍ أخرى، البعضُ هو طبيبٌ ماهرٌ لكنهُ يُشَّغِلُ قُدراتِه هذه ومَوهبتَه تلك هناكَ في بَلَدٍ آخر، البعضُ حتى في الغربِ في مختلفِ مجالاتِ العمل هناك من يشتغلُ هناك وهناك وهناك، لأنَّه لمْ يكُن هنا في البلد مَن يعملُ على استخراجِ هذه الطاقاتِ الكامنةِ والقدراتِ الكامنةِ وتَفعيلِها وتهيئةِ الظروفِ الملائمةِ لها، هذا يحتاجُ الى وعيٍ عام، إلى تفاعلٍ من الجميعِ، مِن الناسِ أنفسِهم، هذا التفاعلُ الواعي الساعي إلى نهضةٍ حقيقيةٍ، وتفاعلٍ من جانبِ الدولةِ في مُؤسساتِها المختلفةِ، والتفاعلِ من أصحابِ رُؤوسِ الأموالِ كيفَ يُوظفون رؤوسَ أموالِهم في ما يَبنون بهِ بلدَهم وشعبَهم ويَستفيدون منه، سيحصلونَ على الرِبحِ، سيحصلون على الثروة، سيحصلون على الخيرِ لكن بشكلٍ صحيحٍ مُثمِرٍ وبنَّاءٍ وفعَّال.

عندما تجدُ المعاناةَ الكبيرةَ التي يعُانيها شعبُنا وبالذات المَرضى ويَحتاجُ الكثيرُ منهم إلى السفرِ إلى الخارج، هل لأنَّه لا يُوجدُ أطباءُ في اليمن أو أطباءُ من اليمن لديهم الكفاءةُ اللازمةُ لمُعالجةِ المرضى في مختلفِ الحالاتِ المَرَضيةِ؟ أو المشكلةُ مثلاً لم يأتِ مَن يهُيئُ ما يَلزمُ لهؤلاء الأطباءِ الأكفّاءِ للبقاءِ في البلادِ وتوفيرِ البُنية التحتيةِ اللازمةِ، المستشفياتِ القويةِ التي تمتلكُ التجهيزاتِ اللازمةَ والعنايةَ اللازمةَ حتى تؤديَ ما يُؤديه أيُ مستشفىً في الأردن، والكثيرُ يحتاجُ إلى الذهابِ إلى الأردن، أتى الحصارُ على البلَدِ، والحصارُ على المَرْضى، والمرضى كانوا مُستهدفين في هذا البلَدِ كما الآخرين مُستهدفين أيضاً، فمَنَعُوا حالاتِ السفرِ من مناطقِنا المُحاصَرةِ إلى الأردن إلى مِصر، الكثيرُ كانَ يَذهبُ إلى العلاجِ في الأردن وإما في مصر، كان مِن المُمكنِ وليسَ من المُستحيل أبداً أن يكونَ في صنعاءَ وفي غيرِ صنعاءَ مِن المُدنِ الكبرى في البلادِ مستشفياتٌ بالكفاءةِ نفسِها التي تمتلكُها مستشفياتٌ في الأردن أو في مصر، وأطباءٌ بالمستوى نفسِه أو أكثر، لكن لا الكثيرَ مِن التُجارِ فكَّرُوا هذا التفكيرَ، مع أنَّهم كانوا سيستفيدون تلك الأموالِ التي يُضطَرُّ المواطنُ اليمنيُ أن يدفعَها كتكاليفَ للسفرِ للعلاجِ في الأردن ـ وهو يحتاجُ إلى أن يدفعَ بالدولار أحياناً في حالاتٍ كثيرةٍ ـ في الأردن أو في أوروبا أو في مصر، كان بإمكانِ التاجرِ اليمني أن يكونَ هو من يستفيدُ مِن هذه الأموالِ، وبأقلِ كُلفَةٍ طبعاً، يستفيدُ المريضُ أنَّه لمْ يحتج إلى الكُلفةِ نفسِها التي احتاجها للسفرِ إلى الأردن أو إلى مصر.

أو أنَّهُ ليسَ في البلَدِ تجارٌ يمتلكونَ هذه القُدرةَ الماليةَ لأن يستثمروا في هذا المجالِ بهذا المستوى؟ بلى يُوجد، يُوجَدُ، بعضُ التُجارِ يستطيعُ أن يبنيَ خمسةَ مستشفياتٍ عملاقةً أو مدينةً طبيةً ضخمة، يُوجَدُ في هذا البلدِ تُجارٌ كبارٌ يمتلكون أموالاً هائلةً جداً.

مِن المشاكلِ الاقتصاديةِ التي نُعاني مِنها ـ وهي كذلك هناك تحذيرٌ مِنها في الشَرْعِ الإسلامي في التوجيهاتِ الإلهيةِ الرفعُ الباهِضُ وغيرُ المُبرَّرِ للأسعار، الكثيرُ من التُجارِ ـ هداهُم الله وأصلحَهم الله ـ والكثيرُ مِن الذين يبتاعونَ ويشترونَ في كثيرٍ من الحالاتِ يُبالغونَ في رَفعِ الأسعار، أي عادةً في كثيرٍ من الحالاتِ تأتي مشكلةٌ مُعينةٌ أو أزمةٌ أولُ ما تبدأُ تلك الأزمةُ أو المشكلة يُبادرونَ إلى رَفعِ الأسعارِ بنسبةٍ عاليةٍ جداً، إلى درجةِ أنَّ البعضَ من التُجارِ نسبةَ أرباحِهم مائةٌ في المائة، مئتان في المائة، ثلاثُمائةٍ في المائة، أي يرفعُ سِعرَ السِلعةِ بأكثرَ مما يُغطي قيمتَها وغَرامتَها، غرامةَ النقلِ والاجراءاتِ التي تَحتاجُ إليها حتى أوصلَ السلعةَ، مثل هذه الكُلفةِ مرَّتين ثلاث، ثلاث مرَّات، أي يربح أرباحاً كبيرةً جداً، ومِن مَنْ؟ مِن هؤلاءِ الناسِ الذين أغلبُهم فقراءُ يُعانون، هذا يُؤدي إلى ارتفاعِ مستوى المُعاناةِ لدى الناس، يُصبحُ كلُ شيئٍ مُرتفِعَ السِعر، مُرتفِعَ الثمن، مُكلِفَاً في شِرائِه، وطبعاً هذا يُؤدي إلى كَسادٍ ورُكود، في الأخير الكثيرُ من الفقراءِ يتفرَّجُ في السُوقِ على أشياءٍ كثيرةٍ ولا يستطيعُ أن يشتريَها، مع التخفيضِ في التكاليفِ يستطيعُ أن يشتري، وباستطاعةِ الكثيرِ من التُجارِ أن يُخففوا، أن يكونَ الرِبحُ رِبحاً مَنطقياً، بالميسور، بما يُراعي فيه ظروفَ الناس، اللهُ سيعطيه البَرَكةَ أكثر، وسيُغطي ـ وهذه نقطةٌ مهمةٌ في السياسةِ الاقتصادية ـ سيُغطي الفارقَ مِن خِلالِ كَثرَةِ البَيْع، مثلاً قد يَبيعُ بمبلغٍ على سبيلِ المثال مثلاً ثلاثينَ ألفاً، ورِبحُه هنا مُضاعَفٌ ثلاثةَ أضعافٍ مثلاً، لو أنَّه مثلاً باعَها بالنصفِ خمسةَ عشرَ ألفاً سيُقبِلُ الناس، سيتمكنُ الكثيرُ مِن الشراء لأنّها لو ظلَّت بثلاثين ألفاً فالكثيرُ من الفقراءِ ومحدودي الدَخْلِ لا يستطيعون شراءَها مِنه، فلا يشتري مِنه إلا البعضُ مِن الناس، لكن لو باعَ بِسعرٍ أقل، بسعرٍ منطقي وهو فيهِ رابِحٌ، هو فيه رابِحٌ، قد يشتري منه الكثيرُ، قد يأتي الكثيرُ مِمن في قُدرتِهم أن يشتروا بذلك السعرِ والثمن، حينها يبيعُ الكثيرَ، حينها يَكثرُ الدخْلُ، حينها يغُطِّي الفارقَ الذي كانَ يُريدُه يومَ رَفَعَ سعرَ السِلعة، يَحصلُ على ذلك الفارقِ من المبيعاتِ الكثيرة، وهذه مسألةٌ مُهمة، حينها ينتعشُ الاقتصاد، تُعالِجُ مسألةَ الرُكودِ وبقاءِ الكثيرِ من البضائعِ في البقَّالاتِ والمحلَّات التجارية، تنتعشُ السُوق، المواطنُ يرتاح، يرى الكثيرُ من الناسِ أنَّه استطاعَ الحصولَ على تلك السلعةِ أو تلك، على تلك الاحتياجاتِ أو تلك.

أيضاً مُشكلتُنا في المَواسِم، تُصبِحُ المَواسِمُ فرصةً لدى بعضِ التجارِ لِرَفعِ الأسعار، لا لشيئٍ إلا لأنَّه مَوسِم، مثلاً عندما يقتربُ العيدً، عيدُ الفِطرِ أو عيدُ الأضحى، يَعتبرُ البعضُ من التُجارِ هذا المَوسِمَ فُرصةً للحُصولِ على الكثيرِ من المَال، لماذا؟ لأنَّ الكثيرَ مِن الناسِ يُريدُ أن يشتريَ مَلابسَ لهُ ولأسرتِه ولأطفالِه وأولادِه، يغتنمُ التاجرُ الفرصةَ ليرفعَ الأسعارَ بدونِ مُوجِبٍ لرفعِ الأسعار، أي يُمكنُه أن يحَصُلَ على الأرباحِ المنطقيةِ والمعقولة لكنَّه يستغلُ إقبالَ الناسِ على شِراءِ الملابسِ معَ مناسبةِ العيدِ فيرفع السِعرَ ليحصُلَ على أموالٍ كثيرة، مع قسوةِ الظروفِ يتعذرُ على كثيرٍ مِن الناسِ أو يَصعُبُ عليهم شراءُ الملابس، قد يتجهُ البعضُ من الناسِ إلى شراءِ مَلابسِ “البالة” وللأسفِ الشديدِ للاضطرار للشراءِ منها، أو لا يمتلكون القدرةَ للشِراء، مثلاً البعضُ من الناسِ قد يكون لديهِ عددٌ كبيرٌ من أفرادِ الأسرة، عشرةَ أولاد، أربعةَ عشرَ ولداً، ثمانيةً، سَبعةً، لا يستطيعُ بتلك الأسعارِ أن يشتريَ للكل، وإذا اشترى للبعضِ قد تحدثُ مُشكلةٌ إلا إذا صالَحَ بينَهم بينَ الأعياد، البعضُ في هذا العيد والبعضُ  في العيدِ الآخر، في نهايةِ المطافِ يُضطرُ إلى أن لا يشتري، لو أتت التخفيضاتُ المنطقيةُ واكتفى التاجرُ بربحٍ منطقي وخفيفٍ وراعَى فيه الناسَ، يشتري الكثيرُ، يحصلُ على أرباحٍ، يُغطِّي الفارقَ الذي رَفعَ من أجلِه السعرَ والثمن، الدولةُ من جانبِها يُفترَضُ أن تضعَ حدَّاً مُعيناً للأسعار، بالذات مع ظروفِ الناسِ الصعبةِ ومعاناتِهم الكبيرة.

وعلى كلٍ لِنَعِ جيداً أنَّ الآفاقَ واسعةٌ للحلولِ الاقتصاديةِ وأنَّ الفُرصَ كبيرةٌ، وأنَّ الشيئَ الخَطِرَ هو عندما يتجهُ الناسُ للمعالجاتِ الخاطئة، والتصرفاتِ الإجرامية، القتل، العمالة والخيانة، الظلم، السرقة، النهب، الغِش، الخيانة بكلِ أشكالها، ارتكاب المحرَّماتِ مِن أجلِ الحصولِ على المال، هذه الحالةُ هي الخطيرة، هناك بدائل، هناك فُرَص، هناك حُلول، هناك ضَمانةٌ إلهية، {نَّحْنُ نَرْزُقُهُمْ وَإِيَّاكُمْ}(الإسراء – الآية 31) هذه ضمانةٌ مهمةٌ تَكفَّلَ اللهُ بالرِزق، {وَمَا مِن دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ إِلَّا عَلَى اللَّهِ رِزْقُهَا}(سورة هود – الآية 6)، فيتجه التركيزُ لدى الناسِ على تقوى الله، الالتجاءِ إلى الله، الاستقامة، التركيزِ على البحثِ عن الحلول، والتحركِ في المجالاتِ الصحيحةِ التي تُمثِّلُ معالجةً صحيحةً وسليمةً ويُعطي اللهُ فيها البَرَكةَ، ويَحصُلُ للكثيرِ مِن الناسِ يَتقونَ الله ويَرزُقُهم وعَايشون بالحلال، كثيرٌ من الناسِ يعيشونَ بالحلال، وبعيدون عن الحرامِ والخيانةِ والجريمةِ والظلمِ وكلِ أشكالِ الجريمةِ والإثم.

نكتفي بهذا القَدر، ونسألُ اللهَ سبحانه وتعالى أن يُوفقَنا وإياكم لما يُرضيهِ عنّا، وأن يرحمَ شهدائَنا الأبرارَ، وأن يشفيَ جَرحانا، وأن يُفرِّج عن أسْرَانا، وأن ينصرَنا بنصرِه، إنه سميعُ الدعاء.

وَالسَّـلَامُ عَلَـيْكُمْ وَرَحْـمَةُ اللهِ وَبَرَكَاتُه