المحاضرة الرمضانية الخامسة للسيد القائد 1440هـ – 2019م

 

أعوذ بالله من الشيطان الرجيم

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمدُ للهِ ربِ العالمين، وأشهدُ أنَّ لا إلهَ إلا اللهُ الملكُ الحقُ المبينُ، وأشهدُ أنَّ سيدَنا محمداً عبدُه ورسولُه خاتمُ النبيين.

اللهم صلِّ على محمدٍ وعلى آل محمد، وبارك على محمدٍ وعلى آل محمد، كما صلَّيتَ وباركت على إبراهيم وعلى آلِ إبراهيم إنك حميدٌ مجيد.

وارض اللهم بِرضاكَ عن أصحابِه الأخيارِ المُنتجبين وعن سائرِ عِبادِك الصالحين.

أيها الأخوة والأخوات، السلام عليكم ورحمة الله وبركاته..

وتقبّلَ اللهُ مِنّا ومِنكم الصيامَ والقيامَ وصالحَ الأعمالِ، اللهم اهدنا وتقبل منّا إنكَ أنتَ السميعُ العليم، وتُب علينا إنك أنت التوابُ الرحيم.

 

وَصلنَا في محاضرةِ الأمسِ إلى الحديثِ عن اليومِ العظيمِ عن يومِ القيامةِ عن يومِ الحسابِ والسؤالِ والجزاء، وعن ما وردَ في بعضِ الآياتِ المباركةِ الآياتِ القرآنيةِ الكريمةِ من مشاهدَ تحدَّثتْ عن ذلك اليومِ العظيمِ في بدايتهِ وعندما ينفخُ اللهُ في الصُورِ، تأتي الصيحةُ الأولى لتدميرِ هذا العالَمِ بشكلٍ كُلي، ولِفناء من بقيَ على قيدِ الحياةِ من البشريةِ وغيرِها حينئذٍ، والهولُ العظيمُ حينما تأتي الساعةُ لا يُمكنُ أن يتصورَهُ الإنسانُ ويستوعبَهُ بمستواهُ وبحقيقتِه، إنما قدَّمَ القرآنُ الكريمُ صورةً للإنسانِ وعن مدى الذُهولِ الذي يُصيبُ كلَ الذين هُم آنذاك على قيدِ الحياةِ عندما قال اللهُ جَلَّ شأنًه في كتابِه الكريم {يَوْمَ تَرَوْنَهَا} أي الساعة هذه والزلزال العظيم الذي يأتي عندما تأتي الساعةُ {يَوْمَ تَرَوْنَهَا تَذْهَلُ كُلُّ مُرْضِعَةٍ عَمَّا أَرْضَعَتْ وَتَضَعُ كُلُّ ذَاتِ حَمْلٍ حَمْلَهَا وَتَرَى النَّاسَ سُكَارَى? وَمَا هُم بِسُكَارَى?} (الحج ـ من الآية 12)، هذه الحالةُ من الذهولِ والرهبةِ والفَزعِ والجَزعِ والدهشةِ التي تُصيب الناسَ، وهم يرونَ هذه الأرضَ تتزلزلُ على نحوٍ لم يسبقْ له مَثيل، زلزالاً سبَّب لهم الفناءَ، هلكوا منه، وانتهت الحياةُ البشريةُ على الأرضِ بالكامل.

اللهُ سبحانه وتعالى حذَّرنا وأنذرَنا لِنحسبَ حِسابَ هذا اليومِ الآتي الذي لا رَيبَ فيه، والذي أصبحَ قريباً أكثرَ مِن أي وقتٍ مضى، البشريةُ اقتربت من هذا اليومِ على نحوٍ لم يَسبقْ لهُ في ما مضى من الأممِ الماضيةِ والعصورِ السالفة، الله جلَّ شأنه قال {اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ} (القمر ـ من الآية 1)، قال جلَّ شأنه {اقْتَرَبَ لِلنَّاسِ حِسَابُهُمْ} (الأنبياء ـ من الآية 1)، وكلُ يومٍ من أيامِ هذهِ الحياةِ ينقضي نحنُ نقتربُ أكثرَ وأكثرَ من هذه اللحظةِ الرهيبةِ، من هذا اليومِ العظيم.

 

والحالةُ التي يكونُ الإنسانُ فيها منذُ الموتِ، وكما سَبقَ كلُ إنسانٍ حياتُه محدودةٌ ومُؤقتةٌ وتنتهي بالموتِ، لكن مُنذُ الموتِ إلى قيامِ الساعةِ هي مرحلةٌ تمرُ بالنسبةِ للإنسانِ بشكلٍ سريع، أولُ ما يُبعث هو يَستقِلُّ جدًّا تلك الفترة التي أمضاها مُنذُ موتِه إلى قيامِ الساعة، وهذا ما تحدَّثتْ عنه الآياتُ القرآنيةُ التي سنقرأُ بعضاً منها.

هَولُ الساعةِ الذي يُدمَّرُ هذا العالمَ بكلِه، ويُدمر الأرضَ تدميراً كلياً، ينسفُ جبالَها، ويُسجِّرُ ويبخرُ مياهَها وبحارَها ومحيطاتِها، ويُسوي الأرضَ على نحوٍ تام، لا يَبقى فيها أيُ عِوجٍ ولا أيُ منخفضاتٍ ولا مُرتفعات، لا منخفضات ولا مرتفعات، {فَيَذَرُهَا قَاعاً صَفْصَفاً لَا تَرَى فِيهَا عِوَجاً وَلَا أَمْتاً} (طه ـ 106،107)، أي يتبدّلُ هذا العالَمُ، تتبدَّلُ الأرضُ، تتبدَّلُ السماواتُ، كما قال الله {يَوْمَ تُبَدَّلُ الأَرْضُ غَيْرَ الأَرْضِ وَالسَّمَاوَاتُ وَبَرَزُواْ للّهِ الْوَاحِدِ الْقَهَّارِ} (إبراهيم ـ الآية 48)، هذه الحالة من تدميرِ الأرضِ وتسويتِها إلى ساحةٍ مستويةٍ تماماً لتؤديَ دوراً آخرَ ووظيفةً أخرى، هي في البدايةِ كانت عالماً لنعيشَ فيه كبشرٍ، مهيأةً لمعيشتِنا ولكلِ أسبابِ معيشتِنا، أمّا بعدَ القيامةِ فلها وظيفةٌ أخرى ومحدودةٌ ومؤقتة جدًّا.

الله جلَّ شأنُه يبعثُ الخلائقَ ما بعَد قيامِ الساعةِ وتدميرِ هذا العالم وتدميرِ الأرض، وفَناءِ كلِ مَن كانوا لا يزالون على قيدِ الحياة، يَنفخ في الصُورِ مرةً أخرى، وتأتي صيحةٌ أخرى، صيحةٌ واحدةٌ، صيحةٌ واحدة، فيبعثُ اللهُ البشرَ من جديدٍ، ويبعثُ الخلائقَ من جديد، ويُعيدُ إليهم الحياة.

 

مَشهَدُ البعثِ تحدَّثتْ عنه آياتٌ قرآنيةٌ مثلُ قولِ الله سبحانه وتعالى {يَوْمَ تَشَقَّقُ الْأَرْضُ عَنْهُمْ سِرَاعاً ذَلِكَ حَشْرٌ عَلَيْنَا يَسِيرٌ} (ق ـ الآية 44)، {وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَإِذَا هُم مِّنَ الْأَجْدَاثِ إِلَى رَبِّهِمْ يَنسِلُونَ} (يس ـ الآية 51)، يقول أيضاً في آيةٍ أخرى {يَخْرُجُونَ مِنَ الْأَجْدَاثِ كَأَنَّهُمْ جَرَادٌ مُّنتَشِرٌ} (القمر ـ من الآية 7)، هذه حالةُ البعثِ السريعةُ جدًّا التي يَبعثُ اللهُ فيها البشرَ فيخرجون من بطنِ الأرضِ، يخرجون من التُربة، وبشكلٍ سريع {سِرَاعاً} {تَشَقَّقُ الْأَرْضُ عَنْهُمْ سِرَاعاً} فيخرجون، {يَخْرُجُونَ مِنَ الْأَجْدَاثِ كَأَنَّهُمْ جَرَادٌ مُّنتَشِرٌ} بكثرةٍ كبيرة، كلُ البشرِ يُبعثون ويخرجون، فعندما يخرجون وبعد عمليةِ الحياةِ والبعثِ يقولُ الله سبحانه وتعالى عنهم {مُّهْطِعِينَ إِلَى الدَّاعِ} (القمر ـ من الآية 8).

 

بعد عمليةِ البعثِ وعودةِ الحياة والخروجِ من الأجداث ومن التربة من القبور، من التربة من الأرضِ نفسِها، تأتي العمليةُ الرئيسيةُ للحَشرِ والحساب، التي هي عمليةُ تجميعِ البشر، وتنظيمِهم، تجميعهمِ وتنظيمِهم لعمليةِ الحساب، والقضاءِ فيما بينهم، الحسابِ على أعمالِهم، والمساءلةِ على أعمالِهم، وإثباتِ الملفاتِ المتعلقةِ بأعمالِهم وتصرفاتِهم في هذه الحياة، والقضاء فيما بينهم، فيما بينهم من مظالم، فيما بينهم من نزاعاتٍ واختلافات وخُصومات، يقضي اللهُ بينهم، ثم بعدَ ذلك عمليةُ الانتقالِ من على الأرضِ بالكامل، الانتقالِ إلى عالَمِ الجزاء، عالَم الجنة وعالم النار.

ولذلك بعدَ البعثِ مباشرةً هناك عمليةُ تنظيمٍ لهم وتجميع، ولهذا قال الله جلَّ شأنه عن هذه الحالة {مُّهْطِعِينَ إِلَى الدَّاعِ} (القمر ـ من الآية 8)، طبعاً حالةُ الذهول بعد البعثِ والتفاجؤ بتلك اللحظة، بالذات مَن كانوا مُكذبين بها ولا يحسبون حسابَها، {يَا وَيْلَنَا مَن بَعَثَنَا مِن مَّرْقَدِنَا هَذَا مَا وَعَدَ الرَّحْمَنُ وَصَدَقَ الْمُرْسَلُونَ} (يس ـ من الآية 52).

 

والإنسانُ في تلك اللحظةِ يَستقلُ كلَ ماضي حياتِه في الدنيا، الحالةُ التي عاشها الإنسانُ في الدنيا عبَّر القرآنُ عن استقلالِ الناس لهذه الحالة {كَأَن لَّمْ يَلْبَثُواْ إِلاَّ سَاعَةً مِّنَ النَّهَارِ يَتَعَارَفُونَ بَيْنَهُمْ} (يونس ـ من الآية 45)، كأنَّ المرحلةَ في الدنيا هذه لم تكُنْ إلا ساعةً واحدةً، وكأنَّها كانت عبارةً عن ساعةٍ تعارفَ فيها الكلُ ثم انتهت وانقضت، والمرحلةُ من بعدِ الموتِ إلى يوم الحسابِ كذلك يستقلُها الإنسانُ جدًّا، يستقلُها الإنسانُ وكأنَّها كانت كذلك، ساعةً، يوماً، بعضَ يوم، بِحسبِ التقديراتِ المختلفة، بحسبِ التقديراتِ المختلفة، {وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يُقْسِمُ الْمُجْرِمُونَ مَا لَبِثُوا غَيْرَ سَاعَةٍ} (الروم ـ من الآية 55)، {وَقَالَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ وَالْإِيمَانَ لَقَدْ لَبِثْتُمْ فِي كِتَابِ اللَّهِ إِلَى يَوْمِ الْبَعْثِ فَهَذَا يَوْمُ الْبَعْثِ} (الروم ـ من الآية 56)، {كَأَنَّهُمْ يَوْمَ يَرَوْنَهَا لَمْ يَلْبَثُوا إِلَّا عَشِيَّةً أَوْ ضُحَاهَا} (النازعات ـ من الآية 46)، {قَالَ كَمْ لَبِثْتُمْ فِي الْأَرْضِ عَدَدَ سِنِينَ * قَالُوا لَبِثْنَا يَوْماً أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ فَاسْأَلْ الْعَادِّينَ} (المؤمنون ـ 112-113)، تختلف وتتفاوت التقديرات، {إِذْ يَقُولُ أَمْثَلُهُمْ طَرِيقَةً إِن لَّبِثْتُمْ إِلَّا يَوْماً}(طه ـ من الآية 104)، أو {إِلَّا عَشْراً} (طه ـ من الآية 103)، البعضُ يُقدِّرُ عشرةَ أيام، البعضُ يُقدِّرُ يوماً، البعض يُقدِّرُ بعضَ يوم، البعض يُقدِّرُ، تختلفُ التقديراتُ فيما بينهم، أكبرُ التقديراتِ للبعض يقول “عشرة أيام”، البعض يقول “بعض يوم”، البعض يقول “يوماً”، البعض يقول “ساعةً واحدة”، يستقلُ الناسُ كلَ ذلك الماضي، يُصبح قليلاً جدًّا، وقد بُعثوا لحياةٍ أبديةٍ لا حسابَ فيها للزمنِ ولا تقديرَ فيها للأعمَار، حياةٍ أبديةٍ {مُّهْطِعِينَ إِلَى الدَّاعِ}، {يَوْمَئِذٍ يَتَّبِعُونَ الدَّاعِيَ لَا عِوَجَ لَهُ} (طه ـ من الآية 108)، استجابة تامة وانقياد وخضوع تام، ليس هناك أحدٌ كما في الدنيا يَعصي، يتمرد، يتعنت على اللهِ سبحانه وتعالى، لا، الداعي الذي يدعوهم ويُنظمهم يستجيبون لهُ بشكلٍ تام، وبشكلٍ سريع، وبدونِ تردُد، وبخشوعٍ تام، والمقام آنذاك مقامُ خشوعٍ وخُضوع واستشعارٍ لعظمةِ الله سبحانه وتعالى واستشعارٍ لجلالِ الموقف {وَخَشَعَت الْأَصْوَاتُ لِلرَّحْمَنِ فَلَا تَسْمَعُ إِلَّا هَمْساً} (طه ـ من الآية 108)، بالرغمِ من كثرةِ الخلائق، من كثرةِ الناس، وقد حُشر الجميع، ولكن هناك خضوعٌ ورهبةٌ وإجلالٌ للموقف، الخشوعُ هذا لدرجةِ أنَّك لا تسمعُ إلا الهَمس، ليس هناك صِياح، ليس هناك أصوات مرتفعة، ليس هناك حُنجرات تصدَحُ بكلِ قوة، ليس هناك أحدٌ يتكلمُ بصوتٍ رفيع، لا، الكلُ في حالةٍ تامة من الخشوع والخضوع، وإذا تكلموا فيما بينهم يتكلمون بالهمسِ والصوتِ المنخفض جدًّا، حالةٌ مَهيبةٌ جدًّا، حالة مهيبة جدًّا، وُصولاً إلى الصمتِ الكلي، في مرحلةٍ من مراحلِ الحسابِ يصمتُ الجميع {يَوْمَ يَأْتِ لاَ تَكَلَّمُ نَفْسٌ إِلاَّ بِإِذْنِهِ} (هود ـ من الآية 105)، يصمتُ الجميعُ لا يتكلم أحدٌ إلا بإذن.

 

وتأتي عمليةُ التنظيم للحساب، يقول الله جلَّ شأنُه {وَيَوْمَ نُسَيِّرُ الْجِبَالَ وَتَرَى الْأَرْضَ بَارِزَةً} (الكهف ـ 47)، مُستويةً لم يَعُدْ فيها لا جبالَ، ولا موانعَ، ولا حواجزَ ولا أي شيء، {وَحَشَرْنَاهُمْ فَلَمْ نُغَادِرْ مِنْهُمْ أَحَداً * وَعُرِضُوا عَلَى رَبِّكَ صَفّاً لَّقَدْ جِئْتُمُونَا كَمَا خَلَقْنَاكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ} (الكهف ـ 47-48)، تبدأُ عمليةُ العَرضِ على الله جلَّ شأنه، العرض في مقام الحساب، والتنظيم بشكلِ صفٍ مستوٍ، يُصَفَّ الناس، يُصَفّون ويقفون في مقامِ الحسابِ للعرضِ أمام الله سبحانه وتعالى، ومقامٍ عظيم ومَهيب جدًّا، مهيبٍ للغاية.

الإنسانُ في مواقفِ الحساب وهي مواقفُ متعددةٌ ومراحلُ متعددة، ما بعدَ البعثِ والنشر، ما بعد عملية التجميعِ للحساب، ما بينَ الترتيباتِ الأولية لعمليةِ الحساب، وفي بدايتِها قُدومُ الملائكةِ بأعدادٍ هائلةٍ جدًّا، قُدومُهم ونُزولُهم إلى ساحةِ المحشرِ مرحلةٌ مهيبة جدًّا، والاستحضارُ والاستشعارُ للقُربِ من الله سبحانه وتعالى ولحضورِه على نحوٍ غيرِ مسبوق، {كَلَّا إِذَا دُكَّتِ الْأَرْضُ دَكّاً دَكّاً * وَجَاء رَبُّكَ وَالْمَلَكُ صَفّاً صَفّاً} (الفجر ـ 21-22)، لحظة مهيبة، اللحظة التي يستشعرُ فيها البشرُ قُربَ الله سبحانه وتعالى والقربَ من الله، والحضورَ الإلهي، يستشعرون هذا على نحوٍ لم يسبقْ لهُم أن استشعروه أبداً، ومجيئُ الأفواجِ الهائلة والأعدادِ الكبيرة جدًّا من الملائكة، وحضورُهم إلى ساحةِ المحشر والمشاهدةُ لهم، الإنسانُ يشاهدُ الملائكةَ وهم آتون، والمجيئُ بالعرشِ الذي سيكون بمثابةِ القِبلَةِ والمقرِ لكبارِ الملائكة، ولإدارةِ عمليةِ الحساب، أمرٌ هائل جدًّا، وأمرٌ رهيب للغاية.

 

أيضاً لحظة من اللحظات الرهيبة في ساحةِ المحشر والمهيبة جدًّا هي مَجيءُ جهنم، هذه لحظةٌ رهيبةٌ جدًّا، ومهيبة جدًّا، {وَجِيءَ يَوْمَئِذٍ بِجَهَنَّمَ} (الفجر ـ من الآية 23)، وفي آيةٍ أخرى كذلك {وَبُرِّزَتِ الْجَحِيمُ لِمَن يَرَى} (النازعات ـ الآية 36)، {لِمَن يَرَى} لحظة مهيبة جدًّا؛ لأنَّ جهنّمَ هي عبارةٌ عن عالَمٍ كبيرٍ جدًّا، والمجيءُ بها والتقريبُ لها حتى تُشاهَدَ من ساحةِ المحشر سيشاهدُها البشر، عندما تأتي كلُ هذه الترتيباتِ والإجراءاتِ والحضور الهائل للملائكة والانتشار الواسع لهم في ساحةِ المحشر، ثم التقريبُ لعالَمِ جهنّم حتى تُشاهَدَ من على ساحةِ المَحشر ويراها البشر، في تلك اللحظات أكثرُ ما يُركِّزُ عليه الإنسانُ ويُدركُ أهميتَهُ وحساسيتَه هو ماذا؟ العمل، العمل وما أدراك ما العمل، {وَبُرِّزَتِ الْجَحِيمُ لِمَن يَرَى}، في تلك اللحظة الإنسانُ يتذكرُ عَمَلَه، {وَجِيءَ يَوْمَئِذٍ بِجَهَنَّمَ يَوْمَئِذٍ يَتَذَكَّرُ الْإِنسَانُ وَأَنَّى لَهُ الذِّكْرَى} (الفجر ـ الآية 23)، حتى أولئك الذين عاشوا في هذه الحياة حالةَ الغفلة والتجاهل واللامبالاة، والبعضُ إلى درجةِ التكبرِ والنكرانِ لهذه الحقائق، والجُرأةِ الشديدةِ على إنكارِها، في تلك اللحظات خلاص، لا مجالَ للإنكار، {يَتَذَكَّرُ الْإِنسَانُ} ينتبهُ ويُدرك أهميةَ العمل.

الإنسانُ في تلك الحالة {يَتَذَكَّرُ الْإِنسَانُ مَا سَعَى} (النازعات ـ من الآية 35)، يتذكرُ أعمالَهُ التي قد عَمِلَها في هذه الحياة، في الوقتِ نفسِه يتذكرُ تقصيرَه، يتذكرُ أهميةَ الأعمالِ ذاتِ القيمةِ العظيمة للنجاةِ والفوزِ والتي لم يتفاعل معها حينما عُرضت عليهِ في الدنيا، حينما عُرضت عليه في حياتِه، حينما كانت تُتلى عليه آياتُ الله وفيها الإرشادُ من الله إلى تلك الأعمالِ العظيمةِ التي فيها نجاتُه وفوزُه، الوعدُ عليها بالجنةِ والفوزِ والرِضوان، والتفريطُ فيها يُسببُ للإنسانِ الخسارةَ والوصولَ إلى جهنَّم، لذلك ماذا سيقولُ الإنسانُ في تلك اللحظة؟ يرى الملائكةَ وقد احتشدت بالمليارات، وانتشرت بشكلٍ كبير، يَرى ترتيباتِ وإجراءاتِ الحسابِ والمساءلة، يرى جهنمَ وقد اقتربت كعالمٍ رهيبٍ وهائل، كلُه عذاب وكلُه نيرانٌ مستعرة {يَقُولُ يَا لَيْتَنِي قَدَّمْتُ لِحَيَاتِي} (الفجر ـ الآية 24)، يتمنى وهو يتحسرُ تحسراً شديداً، وما من فرصةٍ آنذاك ما من فرصةٍ لأي عملٍ يعملُه الإنسانُ لا للخلاصِ مما قد تورَّط فيه في حياتِه في الدنيا، ولا لتداركِ ما فاتَ بعملٍ يقرِّبُه إلى الله سبحانه وتعالى ويكسب به مرضاتَه والنجاةَ من عذابِه.

 

{يَقُولُ يَا لَيْتَنِي قَدَّمْتُ لِحَيَاتِي} (الفجر ـ الآية 24)، كلُ هذه التفاصيل التي عرَضَها القرآنُ الكريم عن مراحلِ الحسابِ والجزاءِ والقيامة والتفاصيلِ المتعلِّقةِ بالجنة والتفاصيلِ المتعلِّقة بعذابِ الله في النار، كلُ تلك التفاصيل التي عرَضَها لنا القرآنُ الكريم لنتذكرَ هنا، لنتأثرَ هنا، لنستفيدَ هنا، لنتداركَ هنا، وأمامَنا الفرصةُ، لا نُفوِّت هذه الفرصةَ، هذه الحالةُ المهمة والرهيبة التي يتذكرُ الإنسانُ فيها العمل، {يَوْمَ يَتَذَكَّرُ الْإِنسَانُ مَا سَعَى} (النازعات ـ الآية 35)، الإنسانُ في تلك الحالة {يُنَبَّأُ الْإِنسَانُ يَوْمَئِذٍ بِمَا قَدَّمَ وَأَخَّرَ} (القيامة ـ الآية 13)، ولا مفرَّ ولا مَهرب، {يَقُولُ الْإِنسَانُ يَوْمَئِذٍ أَيْنَ الْمَفَرُّ * كَلَّا لَا وَزَرَ} (القيامة ـ 10-11)، ليس هناك من مَلجئ ولا مَنجى، ولا مكانَ للاختباءِ فيه، ولا للتملصِ والتهربِ من المحاسبةِ أمام الله سبحانه وتعالى.

 

في تلك اللحظات الرهيبة والهائلة جدًّا تأتي مرحلةُ الحساب، تبدأُ عمليةُ الحسابِ بتوزيعِ الصُحُف، ويُؤتَى كلُ إنسانٍ كتابَه {وَنُخْرِجُ لَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ كِتَاباً يَلْقَاهُ مَنشُوراً} (الإسراء ـ من الآية 13)، لكل إنسانٍ صحيفةُ أعمالِه، هذا الكتابُ هو صحيفةٌ لعملِ الإنسان، مُوثَّقٌ فيه ما عَمِلَه هذا الإنسان توثيقاً دقيقاً، لا يَفوتُ شيءٌ من أعمالِ الإنسان في الخير، أو في الشر إن كان عملُه عملَ الشر، الإنسانُ يستلمُ هذا الكتاب، وحتى عملية التسليمِ هي تدلُ على محتوى هذا الكتاب، وعلى مَصيرِ هذا الإنسان، الإنسانُ إما أن يُؤتَى كتابَه بيمينه، وهذه بشارةٌ للإنسان، والإنسانُ المؤمن الإنسانُ الفائز تأتيه البشاراتُ والطمأنةُ من بعدِ عمليةِ البعثِ مباشرةً، وفي مراحلِ الحسابِ مرحلةً مرحلة، أمّا الخاسرين فلا، العكسُ من ذلك، كلُ مرحلةٍ من تلك المراحل تأتي فيها المؤشراتُ المخيفةُ والعلاماتُ السيئةُ لخسارتِهم وهلاكِهم، وهذه أمورٌ رهيبة جدًّا في العرضِ على الله سبحانه وتعالى {يَوْمَئِذٍ تُعْرَضُونَ لَا تَخْفَى مِنكُمْ خَافِيَةٌ} (الحاقة ـ الآية 18)، وتسليمُ الصحفِ والكتب، {فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ * فَسَوْفَ يُحَاسَبُ حِسَاباً يَسِيراً * وَيَنقَلِبُ إِلَى أَهْلِهِ مَسْرُوراً} (الانشقاق ـ 7،8،9)، {فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ فَيَقُولُ هَاؤُمُ اقْرَؤُوا كِتَابِيهْ} (الحاقة ـ  الآية 19)، يَسعد يستبشر يعيشُ حالةً من الفرحةِ لم يسبِقْ له أن فَرِحَ بمثلِها أبداً، هذه فرحةٌ كبيرة جدًّا، {فَيَقُولُ هَاؤُمُ اقْرَؤُوا كِتَابِيهْ}، هذه حالةٌ من السرور والسعادةِ والابتهاج؛ لأنها حالةٌ اطمأنَ فيها إلى مستقبلِه الأبدي الذي لا نهايةَ له، إلى مستقبلِه الدائم، مستقبلٍ كبيرٍ وعظيم ومهمٍ للغاية، {فَيَقُولُ هَاؤُمُ اقْرَؤُوا كِتَابِيهْ * إِنِّي ظَنَنتُ أَنِّي مُلَاقٍ حِسَابِيهْ} (الحاقة ـ 19-20)، كنت أستشعرُ هذا اليوم، كنت أستشعرُ في الدنيا أنني سأحاسب؛ وبالتالي كنت أعملُ لحسابِ هذا اليوم، وأحسب حسابَه في أعمالي؛ لأعملَ الأعمالَ التي فيها نجاتي، وفيها فوزي، وفيها رضى الله سبحانه وتعالى وفيها الوصولُ إلى جنتِه، فرحةٌ كبيرة جدًّا.

 

لكنَّ الإنسانَ الخاسرَ والخائبَ عندما يُؤتى كتابَه من وراءِ ظَهرِه، عندما يُؤتى كتابَه من وراءِ ظَهرِه ليستلَمه بِشمالِه تكونُ علامةً خطيرةً جدًّا، علامةً للخسارةِ فهو يصيحُ، يصيح {يَا لَيْتَنِي لَمْ أُوتَ كِتَابِيهْ}، يقول اللهُ عمَّا يقولونه آنذاك {يَا لَيْتَنِي لَمْ أُوتَ كِتَابِيهْ * وَلَمْ أَدْرِ مَا حِسَابِيهْ} (الحاقة ـ 25-26)، يا ليتني لم أستلمْ هذا الكتاب، ويا ليتني لم أدرِ ما هو حسابي، وما هو جزائي، وأين هو مصيري، وحالة من التحسُرِ والعذابِ النفسي لا يُمكن أن نتخيلَها، الإنسانُ يرى أنه سيعيش للأبد في حالةِ خُسرانٍ وعذاب، كم هي حسرتُه، كم هي ندامتُه، كم هو عذابُه النفسي وتحسُرُه وهو يدركُ أنها قد أتته الفرصةُ التي كانَ بإمكانِه أن يفوزَ بها، وأن ينجوَ فيها، ولكنه أضاعها وأهملَها، وغَفل، وتجاهلَ، ولم يبالِ، ولم ينتبهْ، لم يسمعْ لنداءاتِ الله، ولا لتوجيهاتِه، ولا لآياتِه، تكبَّرَ، واغترَّ، وأعرضَ، وتجاهلَ، واستهترَ، وسَخِرَ، ولم يبالِ، حسرةً كبيرة جدًّا جدًّا.

 

{وَوُضِعَ الْكِتَابُ فَتَرَى الْمُجْرِمِينَ مُشْفِقِينَ مِمَّا فِيهِ وَيَقُولُونَ يَا وَيْلَتَنَا مَالِ هَذَا الْكِتَابِ لَا يُغَادِرُ صَغِيرَةً وَلَا كَبِيرَةً إِلَّا أَحْصَاهَا وَوَجَدُوا مَا عَمِلُوا حَاضِراً} (الكهف ـ الآية 49)، يندهشون، يندهشُ الإنسانُ حينئذٍ، يندهشُ بشكلٍ كبير، لأنه يجدُ في صحيفةِ أعماله كلُ التفاصيل، كلُ التفاصيل، كيف سُجّلّتْ ووثقتْ عليه كلُ تلك التفاصيل، {يَعْلَمُ خَائِنَةَ الْأَعْيُنِ وَمَا تُخْفِي الصُّدُورُ} (غافر ـ من الآية 19)، تفاصيل كثيرةٌ وجزئياتٌ كثيرة من أعمالِ لم يكن يتوقع أنها ستُحصَى عليه، وأنه لن يفوتَ منها شيء، وأنها قد وثِّقت بكلِها، وتوثيقاً مرئياً حتى، {وأَنَّ سَعْيَهُ سَوْفَ يُرَى? * ثُمَّ يُجْزَاهُ الْجَزَاءَ الْأَوْفَى?} (النجم ـ 40،41)، توثيقٌ لكل أعمالِ الإنسانِ وكلِ تصرفاتِه السيئة، على مستوى خائنةِ الأعين، تلك النظرةُ الحرامُ والتي لم تدُمْ طويلاً ولكنها كانت متعمدةً وسُجِّلَتْ عليه، خفايا الصدورِ التي كانت مُخبأة، تطلع عَداوات، أحقادٌ بغير حق، سوءُ ظنٍ بغيرِ حق، معاصي كثيرة، كانت مخبأة في خفايا النفوس والصدور { يَوْمَ تُبْلَى السَّرَائِرُ} (الطارق ـ 9)، {يَعْلَمُ خَائِنَةَ الْأَعْيُنِ وَمَا تُخْفِي الصُّدُورُ} (غافر ـ الآية 19)، حالة رهيبة جدًّا آنذاك، حالة الحسرة والندم، وحالة الخوف الشديد لكلِ الخاسرين وكلِ الخائبين، وحالةُ الرهبةِ الشديدةُ والكربِ الشديدِ جدًّا {إِذِ الْقُلُوبُ لَدَى الْحَنَاجِرِ كَاظِمِين} (غافر ـ  من الآية 18)، تصل قلوبُهم إلى حناجرِهم من شدةِ الرُعبِ والفزعِ والخوفِ والرهبة، حالةٌ رهيبة جدًّا، وحالةٌ مَهيبة للغاية، والإنسانُ فيها يتحسر ويتندم.

 

وتبدأ في عمليةِ الحسابِ على المستوى الشخصي، وعلى المستوى الجماعي، على مستوى الإنسان كإنسان، ملفاتُ أعمالِه الشخصية، وتصرفاتُه الشخصية، مشاكلُه مع الآخرين والفصلُ فيما بينهم، مع ذلك الشخص، مع تلك المنطقة، وهكذا، ثم المُحاسباتُ العامةُ للأممِ والأقوام والتوجهات، كلُ أُمّةٍ جمعتَها فكرةٌ وعقيدةٌ وقضيةٌ وقيادةٌ ومنهجٌ تعتمدُ عليه، كذلك يُفصل ما بينَها وبينَ تلك الأمةِ الأخرى التي اختلفت معها وتعارضت معها وتنازعت معها، ويأتي الفصلُ الإلهيُ بين الجميع {وَأَشْرَقَتِ الْأَرْضُ بِنُورِ رَبِّهَا وَوُضِعَ الْكِتَابُ وَجِيءَ بِالنَّبِيِّينَ وَالشُّهَدَاء وَقُضِيَ بَيْنَهُم بِالْحَقِّ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ} (الزمر ـ الآية 69)، {يَوْمَ نَدْعُو كُلَّ أُنَاسٍ بِإِمَامِهِمْ} (الإسراء ـ من الآية 71)، يأتي بعد الحسابِ الشخصي الحسابُ الجماعي، ويفصلُ اللهُ بين العباد، في تلك الساحة ساحةِ الحسابِ ساحةِ الجزاء، لا مجالَ للمغالطة، لا يمكنُ أن يَستندَ طرفٌ ما إلى ماكينةٍ إعلاميةٍ تُروجُ له طُغيانَه وظُلمَه، وتُبررُ له جرائمَه، لا، حينئذٍ لا ماكينة إعلامية، ولا إمكانيةَ للتزييفِ للحقائق ولا للخداعِ، الحقائقُ هي التي ستكون متجليةً وواضحةً وظاهرة، والحكمُ هو اللهُ الذي لم يَخْفَ عليهِ شيءٌ، {أَحَاطَ بِكُلِّ شَيْءٍ عِلْمًا} (الطلاق ـ من الآية 12) ، والشهودُ هم الملائكة، والوثائقُ هي الصُحف التي تَوثقتْ فيها كلُ الأعمالِ والمواقف والتصرفات، لا مجالَ للمخادعةِ، ولا مجالَ لتضييعِ الحقائقِ أبداً، ويفصلُ اللهُ بين العبادِ، لا يستطيع الإنسانُ أن يأتيَ مستنداً إلى قُدراتٍ إعلامية، أو قدراتٍ فكريةٍ وثقافية، أو مواهب معينةٍ ليغطيَ على الحقائق، ذلك اليومُ هو يومُ تجلي الحقائق، وظهورِ الحقائقِ والخفايا والحسابِ بين البشر، هو يومُ الفصلِ الذي يفصل اللهُ فيه بين العباد، ولذلك من أهمِ ما في يومِ القيامةِ تجلي العدلِ الإلهي، الفصلُ هناك والفرزُ بين الحقِ والباطل، بين المُحقين والمُبطلين، بين الظالمين والمظلومين، ليس هناك أيُ اصطفافاتٍ وتموضعاتٍ من نوعٍ آخر، لا، أبداً، لم يعدْ من مجالٍ أبداً، الفرزُ سيأتي على هذا الأساس، المؤمن والفاجر، البار والفاجِر، المُطيع والعاصي، المظلوم والظالم، المُحق والمُبطِل، تبدأُ عمليةُ الفرز، من أهمِ مواطنِ الانتصار والانتصارِ الكبيرِ حينئذٍ هو للمظلومين والمؤمنين والمستجيبين لله سبحانه وتعالى، والذين وقفوا في هذه الدنيا متمسكين بنهجِ الله، ومتَّبعين لِرُسلِه وأنبيائِه، ومُطيعين له سبحانه وتعالى، الذين كانوا في هذه الحياةِ يخشون الله، يخشون ربَهم بالغيب، ويُؤثرون طاعتَه، وحَسبوا حسابَ ذلك اليوم وتلك الوقفةِ أمام الله سبحانه وتعالى وهم في هذه الدنيا، اللهُ جلَّ شأنُه قال {إِنَّا لَنَنصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ يَقُومُ الْأَشْهَادُ * يَوْمَ لَا يَنفَعُ الظَّالِمِينَ مَعْذِرَتُهُمْ ? وَلَهُمُ اللَّعْنَةُ وَلَهُمْ سُوءُ الدَّارِ} (غافر ـ 51،52)، الظالمون حينئذٍ، الظالمون يوم ذاك سيكونون في وضعيةٍ فظيعةٍ ورهيبة جدًّا، كلُ تبريراتِهم، وكلُ الأعذارِ التي سيحاولون أن يبرروا بها ما فعلوه في هذه الدنيا وقد ظلموا عبادَ الله، ظلموا من اتجهوا في هذه الحياةِ ليتمسكوا بنهجِ الله، ليؤمنوا باللهِ العزيزِ الحميد، ليتَّبعوا منهجَه، ليتمسكوا بآياتِه، فطغى عليهم الظالمون وحاربوهم وظلموهم في هذه الحياة، لماذا؟ لأنهم لم يخضعوا لهم، لم يَسيروا في صَفِهم، لم يطيعوهم في معصيةِ الله، لم ينهجوا منهجَهم في الباطل، فظلموهم، حينئذٍ يأتي الانتصارُ الكبير {يَوْمَ لَا يَنفَعُ الظَّالِمِينَ مَعْذِرَتُهُمْ وَلَهُمُ اللَّعْنَةُ}، يلعنُهم اللهُ ويُقررُ مصيرَهم إلى جهنم والعياذ بالله.

 

حالاتُ الفرزِ الجماعي في ساحةِ المحشر هي من المراحلِ المهمة في يوم القيامة، والتي سيظهر فيها أو تتجلى فيها خسارةُ أولئك الذين كانوا في هذه الدنيا في صفِ الباطل، فرزٌ حتى في داخلِ الساحةِ الإسلامية، أو واقعِ المسلمين، حتى في داخلِ الأمة التي هي أمةٌ محسوبةٌ على الإسلام، من هو الصادقُ ومن هو المنافق؟، من هو الوفيُ مع دينِه والثابتُ على الحق؟، يُفرَزُ المجرمون والمنافقون والفاسقون والفاجرون، ويخرجون من داخلِ صفِ المؤمنين، ويُميزهم الله {وَامْتَازُوا الْيَوْمَ أَيُّهَا الْمُجْرِمُونَ} (يس ـ الآية 59)، حالة رهيبة جدًّا، لدرجة أن المنافقين يسعون ويحاولون أن يعودوا إلى داخل المؤمنين، ولكن تمنعهم ملائكة الله سبحانه وتعالى {قِيلَ ارْجِعُوا وَرَاءكُمْ فَالْتَمِسُوا نُوراً} (الحديد ـ من الآية 13)، طردٌ لهم، مرحلةٌ مهمة جدًّا، هي مرحلةُ ما قبلَ المرحلةِ النهاية التي بعدها تبدأُ عمليةُ الانتقالِ من ساحةِ الأرض إلى عالمِ الجزاء، من سينتقلون إلى الجنة، من سينتقلون إلى النار.

 

ما قبلَ هذه المرحلةِ الأخيرة، المحطةِ الأخيرةِ في المَحشر، بعدَ إكمالِ عمليةِ الحساب، وبعدَ عمليةِ التمييزِ والفرزِ والتجهيزِ لكلِ اتجاه، من ستكونُ وجهتُهم الجنّة وباتوا مفروزين لوحدِهم، ومعزولين لوحدِهم، ومَن إلى جهنَّم من الكافرين والمنافقين والفاسقين والفاجرين والظالمين، وباتوا كذلك مَفروزين لوحدِهم تمهيداً وتجهيزاً لمرحلةِ الانتقال مِن ساحةِ المَحشر إلى عالمِ الجزاء.

نكتفي بهذا القدر، ونتحدثُ على ضوءِ بعضِ الآياتِ المباركةِ إن شاء الله في المحاضرةِ القادمة عن مرحلةِ الانتقالِ وما قبلَ مرحلةِ الانتقالِ وعالم الجنة وعالم النار، عالم الجزاء.

نسألُ اللهَ سبحانه وتعالى أن يوفقَنا وإياكم لما يُرضيهِ عنّا، أن يرحمَنا برحمتهِ ويكتبَنا في شهرِهِ المبارك من عُتقائِه من النار، وأن يَرحمَ شهدائَنا الأبرار، وأن يشفيَ جرحانا، وأن يفرِّج عن أسرانا، وأن ينصرَ المجاهدين بنصرِه ويؤيدَهم بتأييده، إنه سميعُ الدعاء..

وَالسَّـلَامُ عَلَـيْكُمْ وَرَحْـمَةُ اللهِ وَبَرَكَاتُه